هكذا وجدنا آبائنا

Share:


مكبل أنا ومحدود بحكم ترابط ظروف وتوافقات قديمة، أسوار من العادات تمنعنى، قوانين حياتية وأعراف لأناس قد سبقونى على وجه الأرض تقيدنى، أسر ما تربيت عليه. وإلى الآن تحبسنى الأفكار العتيقة، الإستسلام البادى على الوجوه، والإستكانة الظاهرة فى التصرفات والأفعال، هتافات سجناء العقول، والداعين إلى تمجيد الماضى . أنا أسير، أنا واقع تحت قيد سلطان العادات والتقاليد .
التقاليد هى عدد لا حصر له من القواعد الخاصة المحددة الثابتة، والتى تقرر سلوك الإنسان فى الحالات المختلفة التى يرجح أن تعرض له، وتنشأ من تقليد جيل لجيل سبقه في شتى المجالات، وهى استمرار الناس فى العيش على وتيرة واحدة، وممارسة وجه واحد من أوجه الحياة . ولا تكون التقاليد مكتوبة يسهل مراجعتها، أو تفنيدها وتغييرها إن لزم الأمر، إنما تعتمد على التلقين باللفظ والفعل .
 معظمنا قد تم خداعه أثناء تربيته حيث أضفوا على التقاليد قدسية، لا مساس ولا يجوز مناقشتها، بل تلقيناها ولم نكلف أنفسنا حتى الإرتياب فى صحتها، وإلى الآن نتقبلها دون سؤال، وننصاع لأمرها دون تفهم، أصبحنا جميعاً نعيش فى الماضى بأفكارنا وإحساساتنا، وإذا لم نصحو من غفلتنا خسرنا الحاضر، ولم يسعفنا الماضى .
لم تدع التقاليد جانباً كبيراً أو صغيراً إلا احتلته، هيمنت عليه، وطبعت على الأفراد طابع العبيد الذين لا يأتمرون إلا بأمر أسيادهم الأموات، ومع السنوات لا تصبح التقاليد إلا عبء، قيد للخيال، طمس للفردية، وقفل على القلب والملكات، بحيث لا نري الأشياء إلا من وجهة النظر التى حددها لنا الأقدمون.
وبعد أن تمر سنوات الشباب التى قضيناها على هذا الحال، يستيقظ المرء منا الذي هو الآن فى الأربعين أو فى الخمسين على الشعور بالرفض وللمرة الأولى، ويرى مدي تفاهة الأفكار الرتيبة التى تبناها أسلوب ودستور لحياته، وأن التقاليد قد أضاعت شيئاً كان بداخله كان لابد من الدفاع عنه فى حينه، ويتحسر على حياته التى قضاها فى خرافات دون أن تثبت أى منها، فيحاول أن يتحرر ويفعل شيئاً ذا قيمة، فليحاول ولكن قد لا تسعفه طاقته ولا وقته .
لا ننكر أنه يجب علينا أن نتعلم وننتفع بما اهتدى إليه الناس قبلنا من النتائج المحققة بالتجربة والإختبار، ولكن الأمر الذي نريد تقريره هنا هو أنه متى بلغ الإنسان رشده ونضجت ملكاته كان من حقه أن يتبع فى الإنتفاع بهذه التجارب وفى تأويلها الطريق الذي يراه، ومن حقه أيضاً أن يختار من التجارب والإختبارات ما ينطبق على أحواله وظروفه .
فمن الواضح أن تقاليد الغير وعاداتهم هى إلى حد محدود دليل عما فهموه من الحياة، وتعلموه من تجاربهم الشخصية، وهى من هذا الوجه جديرة باحترام الفرد إياها ولكن يلاحظ :
أولا : أن تجارب الغير قد لا تكون واسعة شاملة، أو لعلهم يكونون أخطئوا فى تأويلها، واستنباط كافة معانيها .
ثانيا : إن تأويلهم لتلك التجارب قد يكون صحيحاً، ولكنها غير مناسبة لظروف كل فرد ومقتضيات حاله  .
وإذا فرضنا أن العادات المألوفة صالحة صحيحة، وأنها مناسبة لظروف الإنسان وأخلاقه، فمن الحمق أن يعيش الإنسان بمقتضاها لمجرد كونها عادات مقررة، فإن ذلك لا يغرس فى نفسه ولا يربى فى طباعه شيئاً من الصفات التى تميزه عن سائر البشر .
وفى كلٍ فنحن لا نستطيع أن نثق بأي طريقة من طرق التفكير مهما قدم عليها الدهر إلا إذا قام على صحتها الدليل والبرهان، فما يردده كل إنسان اليوم على أنه حق وصدق قد ينقلب غداً فيتبين كذبه وزيفه، ومازال البحث عن حل للمشكلات يختلف باختلاف الأجيال والعصور، وكلما جاء عصر جديد أصبح الحل المقبول فى سالفه عتيقاً بالياً، لا يصلح للإستعمال ولا يتماشي مع مقتضيات الحال .
التغيير حتمى، ولكن دائماً ما يصاحب التغيير خوف لأن السير إلى نظام جديد ملئ بالمخاوف والشكوك، فيجعل المرء منا مذعوراً لا يجرؤ على الخروج من الكهف الذي بناه له أسلافه، ليرى الحياة خارج جدرانه التى أوشكت على أن تتهدم فوق رأسه، وكأن الثبات على القديم هو ضمان للحياة السعيدة الآمنة التى لا يعكر صفوها شئ .
لا تأخذوا من التقاليد إلا كل ما له وزن وقيمة



على محمد على