آراء أناتول فرانس 2

Share:



آراء أناتول فرانس 2
من الخطأ الفاحش الاعتقاد بأن الحقائق العلمية تختلف في جوهرها عن حقائق العوام،
فإنها لا تختلف عنها إلَّا من حيث الاتساع والدقة، وهذا من الوجهة العملية فرق جسيم،
ولكن لا ننسَ أنَّ تحقيق العالم ينتهي عند ظاهر الحادثة دون أنْ ينفذ إلى جوهرها،
أو يمسك بطرف من طبائع الأشياء. هذه العين وإنْ تكن مسلحةً بالمجهر، لن تزال عين
إنسان تبصرأكثر من العيون العزلاء، ولكنها لا تبصربشكل آخر، وقد يكثر العالم من
بيان صلات الإنسان بالطبيعة، ولكنه عاجز عن اكتناه جوهر هذه الصلات، وقد يرى
العالم كيف تحدث بعضالحادثات التي تغيب عنا، ولكن يُحظر عليه ما يحظر علينا من
معرفة علة حدوثها.
إذا طلبت في العلم عبرةً وموعظةً كنت عرضةً لأمر الخيبات.

 
 

إنَّ رأي الجمهور لا يوازي تضحية رغبة واحدة من رغباتنا.

 
 

يحتاج أكثر الناس إلىشيء من الزينة ليبدوَ أنهم عظام.

 
 

كلشيء عكرٌ في النفوس العكرة.

 
 

لا يمكن أنْ يكون الموت أكمل من الحياة.

 
 

كان وجه الموت قبيحًا، ووقعه أليمًا، وما زال. إذا قال بعضهم: لا ينبغي الخوف منه؛ لأن
المرء إذ يموت يصبح غير موجود ليس إلَّا؛ أجبناه: وهذا لا يمنع أنَّ فكرة الساعة الأخيرة
ملأى بالآلام والأهوال.

 
 

ليس للأموات إلَّا الحياة التي يعيرهم إياها الأحياء.

 
 

يحترم الناسالموت؛ لأنهم يرون — وهو الصواب — أنه إذا كان موت المرء يُجل، فسيكون
كل واحد موضع الإجلال مرةً بالأقل.

 
 

ما جيلٌ من الناس بالقياس إلى أجيال الموتى التي لا تحصى؟ وما إرادتنا التي لا تعمر
أكثر من يوم أمام إرادتهم التي مرت عليها قرون متطاولة؟ هل من سبيل إلى الثورة
عليهم؟ بل نحن لم نؤتَ من الوقت ما يكفي لأن نعصيهم.

 
 

من الأمور المشاهدة أنه لا شيء أهون على الناس من الموت في سبيل ألفاظ لا معنى لها،
كنت في صباي أحسب أنَّ العمل » :« نقلًا عن هوميروس » إذ قال ؛« أجاكس » وهذا ما عناه
قاله أجاكس بن أويلي. «… أقوى من القول، فإذا بي أعلم اليوم أنَّ القول أقوى

 
 

أكثر ما يتنازع الناس فعلى ألفاظ، ومن أجل ألفاظ يقتلون ويُقتلون بطيب خاطر.

 
 

الحركات الجميلة موسيقى العيون.

 
 

ما هو المثل الأعلى الذي لم يعرفه الإنسان ولم يعِش به حينًا من الدهر؟ لقد عبد آلهةً
غلاظ الأكباد، ودان بأديان كفر وزندقة، وما زال يدين بمثلها. هو هنا يؤمل آمالًا أبديةً،
وهناك يعبد اليأسوالموت والعدم، وهو حيث كان يعمل بنظام أخلاقي معين؛ إذ يستحيل
أنْ يعيش بلا آداب تسوسه.
أمَّا والآدابضرورية لحياة المجتمع، فلا سبيل ولو اجتمعت نظريات العالم كلها إلى
الأمهات الفينيقيات عن إرضاعصغارهن؟! « مولوخ » غلبتها والقضاء عليها، هل كف الإله

 
 

لم يعدم رأي في الآداب طائفةً من الناس تؤيده وتدعو إليه، وإذا توافقت آراء عدة؛ فلأن
أكثر الأخلاقيين كان همهم ألَّا يخالفوا شعور الجمهور وغريزة العامة، ولو أنهم أصغوا
لصوت العقل وحده، لقادهم في سبل مختلفة إلى أغرب النتائج، كما هو مشاهد في بعض
الفرق الدينية التي أغرت العزلة واضعيها بازدراء إجماع الناس الذي لم يُبنَ على الروية.

 
 

ليسأفعل في النفوسمن سحر الأشياء المحجوبة، ولا جمال بلا نقاب يصونه، فإن الإنسان
لا يؤثر على المجهول شيئًا، ولولا الأحلام لما نهضبعبء الحياة أحد. ليس في الحياة خير
من هذا الشيء الذي لا نعرفه، ولكن يخيل لنا أنه فيها. إنَّ الموجود أو الواقع يفيد في صنع
الخيال أو المثل الأعلى — سواء بإجادة أم بغير إجادة — ولعل هذه أعظم فوائده.

 
 

إنَّ المؤلفات التي يجمع الناس على الإعجاب بها، هي التي لا يُعمِل الروية فيها أحد؛
يأخذونها كما يؤخذ الحمل الثمين الذي ينالونه آخرين دون أنْ ينظروا فيه، أم حسبت
من الإغريق واللاتين، بل من الفرنسيس أيضًا، كثيرًا « الكلاسيك » أنَّ في تقبلنا مؤلفات
من حرية الرأي؟ وهذا الذوق الذي يدفعنا إلى كتاب عصري، ويدفعنا عن كتاب آخر هل
تحسبه حرٍّا، أم هو مبني على ظروف لا شأن لمضمون الكتاب فيها، أهمها روح التقليد
الذي ليس في عالمَيِ الإنسان والحيوان، أعظم منه سلطانًا؟ إنَّ روح التقليد ضروري
لنعيش دون أنْ نضلَّ كثيرًا؛ هو مسيطر على أعمالنا وعلى ذائقتنا الفنية، ولولاه لكانت
الآراء الأدبية والأحكام الفنية أشد اختلافًا مما هي. إذا نال كتاب بضعة أصوات لسبب
من الأسباب، نال بعد ذلك بفعل التقليد أصواتًا لا تُحصى، فالأصوات الأولى وحدها كانت
حرةً، أمَّا ما عداها فأصوات تابعة طائعة، وإذن لا معنى ولا قيمة ولا ميزة لها، ولكن عن
كثرتها ينشأ المجد. كل شيء متوقف على بداية صغيرة، فالمؤلفات التي تلقاها الجمهور
بعدم الرضى منذ ظهورها لن يكون لها في المستقبل حظ من القبول، والمؤلفات التي
اشتهرت منذ البداية لن تزال مبجلةً، رغم أنها قد تصبح غير مفهومة، وفي هذا دلالة على
أنَّ الإجماع منشَؤُه التقليد، يزول بزواله.

 
 

قد يُحرم مِنْ تذوُّقِ اللذة مانِحُها.

 
 

ينبغي أنْ يتولد الشعر من الحياة بلا كلفة، كما تخرج الشجرة والزهرة والثمرة من بطن
الأرضتحت عين السماء.

 
 

إذا حسبنا أنَّ كاتبًا يسرق معاني لنا، فلننظر قبل أنْ ننادي بالويل إذا كانت هذه المعاني
على الحقيقة لنا، لست أعني مؤلفًا بعينه، ولكني لا أحب الضجيج الذي لا طائل تحته.
أمَّا من كان كل همه الأدب والفن، فلا يعبأ بهذه الأمور قط، علمًا بأنه ليس لرجل
أنْ يدعي التفكير فيشيء لم يفكر فيه أحد قبله، وبأن المعاني مشاعة بين الناس، لا يصح
إلَّا كما كان يقول الأولاد المساكين الذين حدث عنهم «. هذا المعنى لي » : لمفكر أنْ يقول
وبأنه لا قيمة للمعنى إلَّا بالصورة التي أفُرغ فيها، وبأن وضع «. هذا الكلب لي » : بسكال
المعنى القديم في صورة جديدة هو جماع الفن، بل الإبداع الوحيد الذي أوتيه الإنسان.

 
 

امرأة بلا صدر فراش بلا مخدة.

 
 

لا عزيز إلَّا ما تخشى ضياعه.

 
 

نحن مدينون للذين حاربوا الأوهام والتقاليد، لكن الثناء عليهم أيسر من الاقتداء بهم، لا
تفتأ التقاليد في حركة مستمرة، تجتمع وتتبدد كالغيوم، وهي بطبيعتها جليلة، ثم تبدو
بغيضةً، أمَّا الذين لا يؤمنون بخرافة عصرهم، بل ينظرون محدقين فيما لا يجرؤ العامة
على النظر فيه، فهم نفر قليل.

 
 

لا يجيد المرء الحديث عمن يحب إلَّا متى فقده، وما فن الشاعر إلَّا جمع الذكريات ومناداة
الأخيلة.

 
 

كل الترقيات بطيئة مشكوك فيها، قد تتبعها حركات رجعية، وهو الأغلب. إنَّ السير إلى
نظام أفضل من النظام الحاضرمحفوف بالريب والعقبات؛ لأن القوى الكثيرة العظيمة
التي تقيد الإنسان بماضيه تحبب إليه ضلالات هذا الماضيوأوهامه وخرافاته وفظاعاته،
كأنما هي ضمانات ثمينة للأمان والسلامة. يهول المرء كل جديد نافع، فهو مقلد حذرًا
من سوء العقبى، لا يجرؤ على الخروج من الكنف المتداعي الذي أوى إليه آباؤه، والذي
يهمُّ أنْ ينقضعليه.

 
 

إنَّ الوعود تكلف أقل من الهدايا، لكنها تساوي أكثر، ولن يعطي امرؤ قط بقدر ما يعطي
من آمال.

 
 

لكل صورة شعرية معانٍ عدة، فأي معنًى وجدته كان عندك معناها الحقيقي.

 
 

بي حبُّ العقل لا التعصب له، إنَّ العقل يهدينا وينير طريقنا، لكنك إذا جعلته إلهًا أعماك
وأغراك بارتكاب الجرائم.

 
 

يثور المرء إذا غُلب، أمَّا الغالبون فلا يكونون عصاةً ثائرين.

 
 

ليس بكافٍ ألَّا تضيق ذرعًا بكل الأديان، بل يجب أيضًا أنْ تجلها؛ اعتقاد أنها مقدسة
جميعًا، متساوية فيما بينها بحسن نيات المتدينين بها، كالسهام المرسلة من أمكنة مختلفة
إلى غاية واحدة تجتمع في صدر لله.

 
 

الأديان كالحرباء تتلون ألوان القطر الذي تهبطه، كذلك فإن النظام الأخلاقي الواحد لكل
جيل، وبه قوام وحدة الجيل، لا يفتأ يتبدل بتبدل العادات، فهو أوضحُ صورةٍ لها، وكأنه
ظلها المتضخم على الجدار.

 
 

مرت على هذا الدين اليهودي المسيحي قرون كثيرة ملأى بالأهواء والشهوات الإنسانية،
وبالأحقاد والمودات الدنيوية، وتوالت عليه حضارات عديدة؛ إمَّا بربرية وإمَّا رقيقة،
متشددة خشنة، ومنعمة مترفة، مفرطة في التعصب، ومتساهلة، وضيعة ساذجة ورفيعة
فخمة، وحضارات زراع ورعاة، وجند وتجار وصناع، وأخرى أريستوقراطية وديمقراطية،
كلها توالت عليه حتى أصبح موطأ الأكناف، ذلك أنه لا فعل للأديان في الآداب والعادات،
بل إنَّ هذه تكيف الأديان.

 
 

من طبع الحكماء الحقيقيين أنْ يُغضِبوا سائر الناس.

 
 

لا يختلف أعلمنا عن أجهلنا إلَّا بمقدرته المكتسبة على التلهي بكثير من الضلالات المعقدة.

 
 

ليس بجائز أنْ يكون العالم الحقيقي غير متواضع، فهو كلما خطا خطوةً رأى طول
الطريق أمامه.

 
 

العلم معصوم، لكن العلماء يخطئون دائمًا.

 
 

لا ينبغي أنْ يختلط العلم والدين، كما أنه لا يختلط النسبي والمطلق، والمتناهي واللامتناهي،
والظل والنور.

 
 

لا يزدري العلم إلَّا من يزدري العقل، ولا يزدري العقل إلَّا من يزدري الإنسان، ومن
ازدرى الإنسان أغضب لله.

 
 

ليست السيادة في الأمة، بل في العلم، فإن خطأ يمسييكرره ست وثلاثون مليون لسان لن
يصبح صوابًا. لقد أظهرت الجماعات على الأغلب استعدادًا للعبودة يفوق حد الوصف،
والضعف يعظم في الضعاف بنسبة كثرة عددهم، وهذه الجماعات منذ كانت جامدةً
قاصرةً، لا تظهر شيئًا من البأس إلَّا متى أوشكت أنْ تموت جوعًا.

 
 

لم يضر العلم الدين في زمن من الأزمان، قد يثبت العلم أنَّ هذه العقيدة الدينية خطأ
محض، دون أنْ ينقصمن جراء ذلك عدد الذين يعملون على مقتضاها.

 
 

في العلوم خير كثير؛ إنها تمنع الناس من التفكير.

 
 

ليست العيون والحواس كلها إلَّا رسل الضلالات، وبريد الأكاذيب، فهي تخدعنا أكثر مما
تعلمنا، ولا تجيئنا إلَّا بصور غير ثابتة سريعة الزوال، كذلك فإن الحقيقة تغيب عنا؛ لما
كانت الحقيقة جزء من أصلها الأزلي، فهي مثله غير منظورة.

 
 

الشمس إله، لكنه شديد الحرارة، لم يمكنه البقاء في صورة البشر، فاتخذ شكلًا كرويٍّا،
هو إله مستدير.

 
 

النعيم في العذاب، ويَعرف هذا من أحب.

 
 

مجاهرتي بآرائي لذة غالية الثمن، ولكنها لذة عظيمة، فلن أعفَّ عنها.

 
 

بعضالنساء أفضل من بعضالرجال، وبعضالرجال أقل فضلًا من بعضالنساء، هذا
ناشئ عن أنَّ الجنسين غير مختلفين أو منفصلين بقدر ما هو شائع معروف، بل يوجد
في كثير من النساءشيء من الرجل، وفي كثير من الرجالشيء من المرأة.

 
 

تتألف عواطفنا من آلاف الأشياء الحقيرة التي تغيب عنا، وقد يتعلق مصير هذه النفس
الخالدة بنفخة ضعيفة لا تكاد تلوي قذاةً ضئيلةً. نحن ألعوبة الرياح.

 
 

كلما نظر المرء وسمع وأحس أملى شيئًا منه، فهو مائت رويدًا رويدًا، أليست الحياة كما
نحياها في هذه الدنيا وفاةً دائمة ننفق فيها كل يوم جزءًا من كمية الحياة التي أوُدعت
فينا؟!

 
 

لم يوجد الإنسان ليعلم ولا ليفهم، وليس علىشيء مما يقتضيه هذا. إنَّ دماغه أضخم من
دماغ الغورللا وأكثر تلافيف، ولكن لا فرق جوهري بينهما، ليست أسمى أفكارنا وأوسع
أنظمتنا الفلسفية إلَّا امتدادات مضخمة لما يتضمنه رأس القردة من آراء. يسلينا ويفتننا
ما زاد من معرفتنا بالكون على معرفة الكلب، ولكن هذاشيء يسير، بل إنَّ أوهامنا لتكثر
كلما كثرت معارفنا.

 
 

كل ما في الإنسان سر من الأسرار، ولا سبيل إلى معرفة ما كان خارجًا عن الإنسان؛ هذا
هو العلم الإنساني.

 
 

« العلم » في إشراكنا بالحقيقة الدائمة الطلقة، هذه الحقيقة الناقصة المؤقتة التي يدعونها
كفر وجحود. لقد نشأ عن جنون البشر بأن يشبهوا بين الحقيقة والظاهر، وبين الجسد
والروح، كثير من الآراء الباطلة الضارة التي كشف بها مداح هذا العصر عن عجزهم
المتهور.

 
 

لو كان الخطأ يظهر للناس جميعًا لما أخطأ أحد، فإن عن الحس العام تنشأ الأحكام
الباطلة كلها؛ هو الذي يعلمنا أنَّ الأرض ثابتة، وأنَّ الشمس تدور حولها، وأنَّ الذين
يمشون رءوسهم إلى أسفل، حذار من الحس العام، « أنتيبود » يقطنون الأقطار المتقابلة
فإن باسمه ارتكبت كل الحماقات وكل الجرائم.

 
 

يتألم الإنسان إمَّا لحرمانه مما يعتقد أنه خير، وإمَّا لخوفه من فقدانه إذا كان مالكًا له،
وإمَّا لأنه مصاب بما يعتقد أنه شر، انزعوا من صدره هذه الاعتقادات؛ تزيلوا الشرور
والآلام.

 
 

علمت أنَّ استحضار الأرواح دين لا ينبغي أنْ تحرم النفوس منه، هو وهمٌ لكن فيه عزاء
وسلوى.

 
 

إنَّ المذهب الروحاني وسيلة إلى معالجة الأدواء، لا يصح إهمالها في حالة الطب الحاضرة.

 
 

إنَّ ما يسمونه فن الخطط الحربية هو في الحقيقة عين ما تمارسه شركة كوك: اجتياز
الأنهار على الجسور، وقطع الجبال بسلوك الفجاج. أمَّا القواعد المتبعة في الحروب
فصبيانية لا يكترث لها كبار القواد الذين يوسعون المجال للحظ، وإنْ كانوا له منكرين،
يقوم فنهم بخلق أوهام تكون عونًا لهم في المعارك، فيهون عليهم مثلًا أنْ يغلبوا إذا أوجدوا
اعتقادًا بأنهم لا غالب لهم، ولا تكسب المعركة صفات الدقة والانتظام التي توهم وجود
إرادة عليا إلَّا على الخريطة.

 
 

للجبر والهندسة أسلوبهما كما للموسيقى والشعر، وبالأسلوب الجليل يُستدل على النبوغ
في العلوم، كما يُستدل به على النبوغ في الفنون.

 
 

ليس الأبد على الأموات بطويل.

 
 

لا يسيطر الإنسان على الزمان، والزمان هو الحياة عينها، إلَّا متى قسمه ساعات فدقائق
فثوانٍ، أعني متى جزأه أجزاءً متناسبة على قصرالحياة الإنسانية.

 
 

هل بقيت رذيلةً منذ عصرالكهوفووحيد القرن لم يستنبطها الإنسان؟ لقد تخيل الوحش
الآدمي كلشيء قبل أنْ يتسع خياله.

 
 

الحياة بحد ذاتها نكبة، نكبة مستمرة؛ إذ لا سبيل إلى ظهورها إلَّا في وسط غير ثابت،
وشرط وجودها بالأصل هو عدم استقرار القوى التي تحدثها، كذلك فإن حياة الشعب
كحياة الفرد تهدمٌ دائم، وسلسلة انهيارات وتفش للمكاره والجرائم لا نهاية له. هذا
وطننا أجمل وطن، ولكن لا بقاء له إلَّا بتجدد شدائده وتكرر أغلاطه، في الحياة الإتلاف
وفي العمل الإضرار.

 
 

الحياة! أتريد أنْ أعرِّفها لك علميٍّا؟ هي مجهول يلوذ بالفرار.

 
 

تكون الحياة جديرةً بأن يحياها المرء في حالات خاصة، الحياة نور ضئيل بين ظلمتين
غير متناهيتين، بل هي حظنا من الألوهية، والإنسان ما عاش، فهو شبيه بالآلهة.

 
 

عبثًا نوقن بباطل الحياة، ونطل على هاوية العدم، فقد تكفي زهرة لغمر الهاوية.

 
 

كل ذي حياة غذاء لمن يجيء بعده، والعربي الذي يبني كوخه برخام هياكل تدمر أعقل
من كل حفظة المتاحف في لندن وباريس ومونيخ.

 
 

ليس فيشرور الحياة ما هو أشد إيلامًا من زوال الأشياء حولك كافةً.

 
 

العادات والأفكار والعقائد والمشاعر جميعًا في تبدُّلٍ دائم، وكل جيل يجيء بأنماط وأهواء
جديدة. إنَّ في الزوال المستمر الذي يطرأ على كل الصور وعلى كل المعاني خير ملهاة في
هذه الحياة، كما أنه أعظم مدعاة حزن فيها.

 
 

لا تبدو الحياة قصيرةً إلَّا لأنا نقيسها دون روية على آمالنا الجنونية، كلنا كعجوز القصة
لا يزال عنده جناح يضيفه إلى القصرالذي شاده.

 
 

الحياة خيانة مستمرة.

 
 

ينبغي لتكون الحياة عظيمةً وليملأ فراغها، أنْ يوضع فيها الماضيوالمستقبل. ينبغي أنْ
تكون آثارنا الشعرية والفنية في تكريم الذين ماتوا، وفي التفكير بالذين سيولدون، هكذا
نشترك فيما كان، وفيما هو كائن، وفيما سيكون.

 
 

كل شيء يزول لكن الحياة باقية، فالحياة، الحياة يجب أنْ نحب في صورها التي لا تفتأ
متجددةً.

 
 

للصغائر في الحياة مقام عظيم.

 
 

تكاد تتألف البشرية كلها من الموتى، وما أقل الأحياء بجنب الأموات الذين لا يحصون،
إذن فما هذه الحياة التي هي أقصرمن حافظة البشر القصيرة؟

 
 

كأني بالناس اليوم يعتقدون أنَّ الحياة شيء لا يعدله سواه، على أنَّ الطبيعة تعلمنا أنه
ليس أخس منها ولا أحقر. لقد كانت البشرية في الماضي أقل انفعالًا بالعواطف؛ كان
الرجل يرى حياته ثمينةً بلا حد، ولكن لم تكن لحياة غيره قيمة عنده، كان الناسيومذاك
أقرب إلى الطبيعة، فإنما وُجدنا ليأكل بعضنا بعضًا، لكن النوع صار إلى الضعف والوهن
والرياء، فالإنسان يأكل لحم أخيه بالمداراة والخديعة، وفيما يفترس أحدنا الآخر ننادي
على رءوس الملأ إنَّ الحياة مقدسة، ولا نجرؤ على الإقرار بأن الحياة قتل مستحر.

 
 

قد تكون الحياة كما نراها في هذه الدنيا وعلى الوجه الذي نفهمها؛ أعني الحياة العضوية
« الأرض » التي يحياها الحيوان والإنسان، عارضًا خاصٍّا بهذا العالم الصغير الذي ندعوه
ليس إلَّا، وقد يكون هذا الكوكب فسد وتعفن، فكل ما نراه فيه — ونحن أيضًا — آثار
الداء الذي أفسد الثمرة الخبيثة. إن معنى الكون يغيب بالكلية، وما يدريك لعلنا جراثيم
يمجها نظامه.

 
 

ليس الشر في أنْ يعمر الإنسان طويلًا، بل في أنْ يرى حوله كل شيء يزول؛ الأم والزوج
والبنون؛ تلك كنوز تجمعها الطبيعة، وتبددها بعدم اكتراث محزن، فإذا نحن في النهاية
لم نحبب ولم نضم إلىصدرنا إلَّا أشباحًا، ولكن لله، ما أرق بعضهذه الأشباح وما أحبها!

 
 

أليست المدن كتبًا، كتبًا مزينةً بالرسوم، نرى فيها الأجداد؟!

 
 

،« نحن » الإرادة وهمٌ ناشئ عن جهلنا بالعلل التي تكرهنا على أنْ نريد. ليس ما يريد فينا
بل أنظمة من الحجيرات الناشطة نشاطًا معجزًا، لا نعرفها ولا تعرفنا، ولا يعرف بعضها
بعضًا، لكن بها قوامنا، هي تحدث بحركتها الدائمة مجاري لا تُحصى، سميناها الأهواء
والأفكار والآلام، والمسرات والمخاوف والشهوات والإرادة، نحسب أنا أسياد نفسنا، لكن
قطرة من الكحول تهيج هذه العناصرالتي بها نحس ونريد، ثم لا تلبث أنْ تخدرها.

 
 

لا يعلم أحدنا أهو أساء إلى أبناء آدم أم أحسن. يجب أنْ نعبدهم دون أنْ نجتهد لفهمهم.
إنَّ حكمتهمسرمن الأسرار (خواطر الكلب ريكه).

 
 

إنَّ عملًاضُربت من أجله عمل سيئ، وعملًا أنُعم عليك بالملاطفة والطعام من أجله عمل
حسن (خواطر الكلب ريكه).

 
 

اجتاز دلوٌ فيه ماء الصالون ذات يوم، وكان مثقوبًا فبلل الأرض، أظن أنَّ هذا الدلو الوسخ
قد عُوقب بجلد أليته (خواطر الكلب ريكه).

 
 

يوجد في السوق عجلات تجرها الخيل؛ إنها رهيبة. ويوجد عجلات تمشي وحدها نافخة
بقوة؛ هذه بطنها مملوء عداوة. لا أحب الرجال الذين يلبسون خرقًا مرقعةً، ولا الذين
يحملون السلال على رءوسهم، ولا الذين يدفعون البراميل أمامهم، أحب الأولاد الذين يفر
بعضهم من بعض، ويبحث بعضهم عن بعض، ويتراكضون صارخين في الأزقة. إنَّ الدنيا
مملوءة بالأشياء الخصيمة الرهيبة (خواطر الكلب ريكه).

 
 

يزهد المرء في الإبانة عن عواطفه إذا كانت الألفاظ ستضعفها كثيرًا.

 
 

من يقدر على أنْ يحل عقد العلل والمعلومات؟ من يقدر على أنْ يفاخر إذا قام بعمل، قائلًا
أنا عالم بما أنا صانع؟

 
 

هل يوجد تاريخ منصف، بل ما التاريخ؟ هو تمثيل الحوادث الماضية بالكتابة، ولكن ما
الحادث؟ أهو أي حادث؟ كلا، هو حادث جدير بأن يُذكر. كيف يحكم المؤرخ على الحادث
بأنه جدير أم غير جدير بالذكر؟ يحكم المؤرخ اعتباطًا بفعل ذائقته وطبعه ورأيه؛ أي
بصفته فنانًا، ذلك أنَّ الحوادث ليست بطبيعتها على نوعين؛ الحوادث التاريخية والحوادث
غير التاريخية، ثم إنَّ الحادثشيء عويصمركب، فهل ينقل المؤرخ الحوادث كما هي في
تركيبها؟ هذا مستحيل، فإنه يعرضها مجردةً من كل الخصائصالتي تقوم بها، ناقصةً
مشوهةً مختلفةً عن حقيقتها، أمَّا علاقات الحوادث فيما بينها، فالأفضل ألَّا نذكر عنها
شيئًا، إذا كان الحادث الذي يسمى حادثًا تاريخيٍّا ناشئًا — وهو الأقرب إلى التصديق —
عن حادث أو عن بضعة حوادث غير تاريخية، إذن مجهولة، فكيف يستطيع المؤرخ أنْ
يعين الصلة بين هذه الحوادث في تسلسلها؟ وإني لأفترضفيما أقوله الآن أنَّ المؤرخ ينظر
في شهادات صحيحة ثابتة، على حين أنه بالحقيقة مخدوع في أكثر الأحوال، وأنه لا يثق
بهذا الشاهد أو بذاك إلَّا لدواعٍ عاطفية. ليس التاريخ بعلم، بل هو فن، ولا ينجح فيه إلَّا
صاحب المخيلة.

 
 

ينسخ المؤرخون بعضهم عن بعض، فيكفون أنفسهم العناء، ولا يُتهمون بالغرور، اقتدِ
بهم ولا تكن مبتكرًا، فإن المؤرخ المبتكر موضع ريبة واحتقار واشمئزاز عند الناسكافة.

 
 

كان البشر في الماضي— كما نعرفهم اليوم — خيارًا وسطًا، وشرارًا وسطًا.

 
 

قد يوجد في عالم مجهول مخلوقات هي شرٌّ من الإنسان، هذا جائز، وإنْ كنت إلى عدم
التصديق به أميل، لكن الثابت أنهم يقطنون إذا وُجدوا في أقاليم محرومة من النور، وإذا
كانوا يحترقون، فبالجليد الذي يحدث آلامًا لاذعةً لا بالنيران الشريفة بين بنات الكواكب
المضطرمة. هم معذبون؛ لأنهم أخباث ولأن الخبث داء، ولكن لا يصح أنْ يعذبوا إلَّا
بالقشب.

 
 

إنَّ أبيقور والقديسفرنسوا داسيز، هما في نظري أفضل الأصدقاء الذين لقيتهم الإنسانية
المعذبة في سيرها على غير هدًى، لقد أطلق أبيقور النفوسمن مخاوفها الباطلة، وعلمها أنْ
تقيس فكرة السعادة على طبيعتها المسكينة وقواها الضعيفة، أمَّا الرجل الصالح فرنسوا
داسيز الذي كان أرق قلبًا وأدق إحساسًا، فقد هدى النفوسسبيل التنعم بالحلم الباطن،
وأوصاها أنْ تتغذى به، فتفيض مسرةً في مهاوي وحدة مسحورة، كان كلاهما صالحًا
محسنًا؛ الأول لقضائه على الأوهام المخيبة، والآخر لخلقه أوهامًا لا يقظة منها.

 
 

إنَّ للوهم الذي يدوم صفات الحقيقة، ولن يكون مخدوعًا أو مغبونًا من لا يقع في الخيبة.

 
 

لا تدوم الممالك بحكمة بعض الوزراء ورجاحة عقولهم، بل بحاجة الملايين من الناس
الذين يحترفون لكسب معاشهم ضروب الحرف الدنيئة كالصناعة والتجارة والزراعة
والجندية والملاحة، فإن هذه الصغائر هي التي تؤلف ما يدعونه بعظمة الشعوب، وليس
فيها للأمير ووزرائه أدنى نصيب.

 
 

الدولة كالجسد الإنساني، ليست كل وظائفها شريفة، بل إنَّ منها ما يجب إخفاؤه عن
الأنظار، وقد تكون هذه الوظائف أوجبها ولا غنى عنها.

 
 

يجب أنْ تقول بما يقوله الجمهور إذا كنت لا تستطيع أنْ تفكر مثل تفكيره، فإن بوحدة
العقائد قوة الشعوب.

 
 

لا يمكن أنْ يُحكم الشعب الواحد في الزمن الواحد إلَّا على صورة واحدة؛ لأن الشعوب
أجسام تتوقف وظائفها على تركيب أجزائها وحالة أعضائها؛ أي على الأرضوسكانها، لا
على الحكومات التي تخلع على الأمم كالثياب المحكمة على جسم الأفراد.

 
 

ما الوطن؟ هو نهر يجرى، شواطئه أبدًا متبدلة، ومياهه متجددة.

 
 

على باريس مهمة، هي أن تعلم الدنيا، فإن من حجارة أرضباريس الحجارة التي طالما
ثارت لنصرة العدل والحرية، تفجرت الحقائق المعزية المنقذة.

 
 

في مالية الشعوب منابع خفية يغيب عن علماء الاقتصاد علمها، فإن أمة مفلسة لقادرة
على أن تعيش خمسمائة عام بابتزاز الأموال وهضم الحقوق. وكيف السبيل إلى معرفة
ما قد يجهز به فقر شعب عظيم حماته وجنوده من المدافع والبنادق، والخبز الرديء،
والأحذية الرديئة والتبن والشعير؟

 
 

إن المعارضة شر مدرسة يتعلم فيها رجال الحكم كيف يحكمون؛ لهذا نرى عقلاء
الساسة الذين بلغوا إلى المناصب العالية من سبيل المعارضة يعنون في حكمهم باتباع
نقيضالقواعد التي كانوا يجاهرون بها من قبل، فإن الضرورات التي خضع لها السلف
تسيطر على الخلف أيضًا، ولا يأتي هؤلاء بجديد إلَّا قلة خبرتهم.

 
 

ليس النظام العام إلَّا تعديًا منظمًا.

 
 

إنَّ سياسة الاستعمار هي أحدث مظاهر البربرية، أو إذا شئت فهي حد المدنية الأخير،
لا أفرق بين هذين اللفظين؛ لأن مدلولهما واحد، وليس ما يسميه الناس مدنيةً إلَّا
عادات العصرالحاضروآدابه، وما يسمونه بربريةً هي أحوال العصور الغابرة، فالعادات
الحاضرة سوف تُدعى بربريةً متى أصبحت عادات الماضي.
لا مناص الآن من الإقرار بأن من عاداتنا وآدابنا أنْ تقضي الشعوب القوية على
الشعوب الضعيفة، وهذا أصل في الشرائع الدولية، وأساس في السياسة الاستعمارية،
ولكن لننظر هل كان في الفتوح البعيدة منافع للأمم؟ لا أرى ذلك، ماذا أفادت إسبانيا من
المكسيك والبيرو؟ وماذا أفادت البرتغال من البرازيل؟ وماذا أفادت هولاندة من بتافيا؟
إنَّ المستعمرات على أنواع؛ فمستعمرات تستقبل مساكين الأوروبيين بأرض قفر
جدباء، ترعى العهد وتظل على الولاء ما كانت فقيرةً، فإذا أثرت انفصلت عن قاعدة
المملكة واستقلت بأمورها، ومستعمرات لا تصلح للسكن، ولكن تُؤخذ منها مواد أولية،
وتُحمل إليها سلع جاهزة، فبديهي أنَّ هذه لا تغني حاكميها، بل المتاجرين فيها، وهي إلَّا
ما ندر لا تساوي ما تكلفه، ثم لا تفتأ تعرضالحكومة المستعمرة للنكبات الحربية.

 
 

ليست حياة الشعوب إلَّا سلسلة من المكاره والجرائم والحماقات.

 
 

كلما تقدمت في السن ازداد يقيني بأنه لا يوجد مجرمون، ولا يوجد إلَّا بؤساء مساكين.

 
 

الحماقة هي قابلية السعادة، فيها الرضىالكلي، وهو رأس الخيرات في مجتمع متمدن.

 
 

خير لك أنْ تكون أحمق مثل كل الناس من أنْ يكون لك عقل ليس كعقل أحد.

 
 

كان لا يؤمن بحسن أثر العقوبات في النفوس، يائسًا من جعل السجن مدرسة فضيلة،
لا يرى في تعذيب الخلق إصلاحًا لهم، فكان يكفي أولئك المساكين مضاضة الآلام ما وجد
إليه سبيلًا.

 
 

لولا السخرية لكانت الدنيا غابةً لا طير فيها، السخرية مسرة التفكير وبهجة الحكمة.

 
 

من يدري ما تولده الألاعيب في نفوس الأطفال من أحلام؟

 
 

نحن أطفال مقضيٌّعلينا أنْ نظل أطفالًا إلى الأبد، لا نفتأ نعدو وراء ألاعيب جديدة.

 
 

الحقيقة هي أنَّ الحرب من لوازم الطبيعة الإنسانية، وأنه يتعذر تصور شعوب لا يحارب
بعضها بعضًا، أعني لا يكونون قتلةً منها بين محرقي القرى، كذلك يتعذر تصور ملك أو
أمير ليس بمغتصب، وإنَّ قليلًا؛ لئلا يزدري ويلام على زهده في المجد أشد اللوم. الحرب
إذن ضرورية للإنسان، بل هي ألزم لطبعه من السلم الذي لا يكون إلَّا فترةً أو هدنةً؛
لذلك كنا نرى الملوك والأمراء يقذفون جيوشهم بعضها ببعض لشر العلل وأتفه الأعذار،
فيتوسلون إلى الحرب بشرفهم، ويا لله ما أدقه وأسرع انفعاله! يكفي نفخةضعيفة لإحداث
لطخة لا تُغسل إلَّا بدم عشرة، أو عشرين، أو ثلاثين، أو مائة ألف رجل، على نسبة عدد
السكان، ومهما أطلنا الروية فلن نفهم كيف يُغسل شرف الأمير بدم هؤلاء المساكين،
ولكننا نعلم أنَّ هذه الألفاظ خلو من المعنى، وأنَّ الناس يقدمون على الموت غير وجلين
من أجل ألفاظ، وثمة ما هو أعجب، فإن الأمير يصيب فخرًا عظيمًا من سرقة ولاية، وإذا
كان التعدي الذي يأتيه فرد جريء جزاؤه الموت، فهو أمر ممدوح إذا قام به الملك بعون
جنوده المرتزقة، مظهرين فظاعةً لا مثيل لها.

 
 

كل تبدُّل مادي يتبعه تبدُّل معنوي؛ لأن الآداب والعادات مرتبطة بالبيئة، وبديهي أنَّ
التبديل الذي يحدثه الإنسان في أرضه هو أبلغ وأحسن نظامًا من التبديلات التي تحدثها
سائر الحيوانات، إذن فلماذا لا تعمل البشرية على تهذيب طبيعتها كي تجعلها مسالمةً؟
لماذا لا توفق ذات يوم إلى القضاء على تنازع البقاء، أو بالأقل إلى تنظيمه؟ لماذا لا تنسخ
شريعة القتل؟ ليس بعجيب أنْ نرجو من الكيمياء كثيرًا، ولكني لا أجزم بشيء، فمن
الممكن أنْ يستمر النوع الإنساني على سويدائه وهوسه وجنونه؛ حتى يحين فناؤه المحزن
في الجليد والظلمات، ولعل هذا العالم مركب على الشر بلا أملٍ في شفائه.

 
 

يندر أنْ يثري من اتخذ التنبُّؤَ بالمستقبل مهنة، فإن الناس لا يلبثون أنْ يعرفوا كذبه
وخداعه فيبغضوه بغضًا شديدًا، ولكن يجب أنْ يكون بغضنا إياه أشد لو كان صادقًا في
نبوءاته، فإن حياة المرء إذا عرفما سيحدث له تصبح عبثًا لا يُطاق حمله، وويلًا لا يُصبر
عليه، فهو يكتشف شرورًا مستقبلةً تؤلمه قبل وقوعها، ولا ينعم بالخيرات الحاضرة؛ لأنه
يرى نهايتها. إنَّ الجهل شرط لا غنى عنه في سعادة البشر، ومن المسلم أنهم على الأغلب
يوفون هذا الشرط حقه، فنحن نكاد نجهل من نفسنا كلشيء، ولا نعلم من غيرنا شيئًا،
في الجهل طمأنينتنا، وفي الكذب سعادتنا.

 
 

الحسن في الشبيبة هو أنها قادرة على أنْ تعجب بالأشياء دون أنْ تفهم لها معنًى، لكن
المرء إذا تقدم في السن أراد أنْ يدرك علاقات الأشياء، فهو إذن يرمي بنفسه في الضيق.

 
 

في الغريزة وحدها الحقيقة، فيها وحدها اليقين الذي قُدر للبشر أنْ يبلغوا إليه في هذه
الحياة الوهمية، ومن عقله يجني المرء ثلاثة أرباع الشرور التي عرفها الإنسان.
يقول شيخنا كوندياك: إنَّ أذكى الناس هو أيضًا أعظمهم قابليةً للخطأ.