آراء أناتول فرانس 3

Share:



آراء أناتول فرانس 3 



يجب على الرجل المستقيم أنْ ينقد الأقدار ثمن ما يشتري منها.

 
 

إذا حركت مبدأً وجدت شيئًا تحته، فعلمت أنه ليس بمبدأ.

 
 

أحسب أنَّ ست سنوات أو سبعًا يُعنى المرء فيها بثقافته الأدبية تمنح فكره إذا كان حسن
القبول نبلًا وظرفًا وجمالًا، لا تُكتسب بوسائل أخرى.

 
 

الغرب. « ألف ليلة وليلة » الفلسفة والأدب هما

 
 

لو لم يكن إلَّا الشر في الدنيا لما رأيناه، كالليل لا يكون له اسم لو أنَّ النهار لا يطلع.

 
 

المهم في التضحية هو التضحية بحد ذاتها، إذا كان ما تضحي نفسك لأجله وهمًا؛ فإن
تضحيتك حقيقة لا ريب فيها، وهذه الحقيقة هي أنفسحلية يزين الإنسان بها خصاصته
المعنوية.

 
 

إنَّ الحكمة ترفع العبد فوق سيده، بل ماذا أقول؟ فإن العبد الفاضل لأسمى من الآلهة
أيضًا؛ لأنه إذا كان مساويًا لهم في الحكمة، فهو يفضلهم بجمال الجهود التي يبذلها في
عروجه إلى تلك المرتبة العالية.

 
 

أكثر الذين يصيبون نُجْحًا في هذه الدنيا فالبلهاء، والأذكياء حمقى لأنهم لا يتوصلون إلى
شيء.

 
 

يجب أنْ نأذن لهؤلاء البشر المساكين ألَّا يطابقوا دائمًا أقوالهم على عواطفهم، بل يجب
ألَّا نضيق ذرعًا إذا كان لكل واحد منا فلسفتان أو ثلاث في وقت معًا، فليس ما يحمل
على الاعتقاد بأن مذهبًا واحدًا فيه كل الصواب إلَّا إذا كنت واضع ذلك المذهب، ولا يُغتفر

التعصب أو التحيز إلَّا لمخترع أو لواضع، وكما أنَّ في القطر الواسع أقاليم مختلفةً جدٍّا،
لا» فكذلك في العقل الواسع كثير من المناقضات، والحقيقة هي أنَّ النفوسالمنزهة عن كل
تخيفني، فأنا لا أستطيع تصور أنها لا تخطئ قط، وأخشىلذلك أنْ تخطئ دائمًا، « منطق
قد يهتدي إلى الحقيقة بعد أنْ يكون أضاعها، « المنطق » على حين أنَّ المرء الذي لا يدعي
سيعترض عليَّ دفاعًا عن المنطقيين بأنه يوجد في آخر كل قياس حقيقة، كما يوجد عينٌ
البشر يوم يكتملون وتتناسب أعضاؤهم، « فورنيه » أو ظفر في طرف الذنب الذي وعد به
ولكن يبقى للعقول المتعرجة المترددة فضل بأنهم يسلون غيرهم بالأخطاء والضلالات
التي تسليهم أنفسهم.
يا لسعد من كانت له مثل عولس رحلة جميلة! إذا كان الطريق مزدهرًا فلا تسل إلى
أين يوصل، هذه نصيحة أسديكها غير مبالٍ بالحكمة السائرة، مصغيًا إلى صوت حكمة
أسمى: كل الغايات محجوبة عن الإنسان. سألت عن طريقي أولئك الذين ادعوا معرفة
جغرافية المجهول جميعًا، أعني رجال الدين والعلم والسحرة والفلاسفة، فلم يستطع
واحد منهم إرشادي إلى السبيل الأقوم؛ لذلك اخترت هذا الطريق الذي تظله أغصان غضة
مشتبكة تحت السماء الضاحكة الضحيانة، تقودني عاطفة الجمال، ومن ذا الذي وُفق إلى
خير من هذا الدليل؟

 
 

الهندسة أصل في كل شيء، بل هي فيه كالهيكل العظمي في الحيوان. إنَّ العالم المرئي
يحجبها، ولكنها في لعب الصور اللامتناهية، التي يتجلى الكون فيها لنفسنا الحائرة،
تسيطر بسننها الثابتة على المادة النائمة والمادة اليقظى، على البلور والإنسان والأرض
والنجوم، هي مسيطرة على جمال الغواني، وائتلاف الموسيقى وأوزان الشعر، وانتظام
الأفكار، هي مقياس كل شيء، فيها الحركة وفيها الاستقرار، ما أسعد الذين يتبعون في
عمر طويل حُسنَ نظام صورها، ويكتشفون خصائصها التي لن تزول!

 
 

يولد الأطفال متدينين، ألم ترَ أنهم يعبدون ألاعيبهم، ويسألون ألاعيبهم ما سألت البشرية
آلهتها منذ الأزل: المسرة والنسيان، والكشف عن المناسبات الحفية وسر الوجود؟! إنَّ
الألاعيب كالآلهة تبعث الرعب والحب على السواء، أليست الألاعيب التي كان يسميها
كالعذارى الإلهيات لتلك الطفولة الأولى، والشياطين التي « بنات الماء » صبايا الإغريق

تخرج من العلاب؟ أليست ترمز مثل غورغونة اليونان وبلعزبوت النصارى عن اتحاد
البشاعة المنظورة بالشرالباطن؟! لا يُنكَر أنَّ الأطفال قد يجاوزون الحد مع آلهتهم، ولكن
ألم يشتم الكبار أسماء آلهتهم أيضًا؟ إنَّ الأطفال يحطمون ألاعيبهم، ولكن أي رموز لم
تحطمها الإنسانية؟ إنَّ الطفل كالرجل لا يفتأ يبدل مُثُلَه العليا، ولن تزال آلهته غير كاملة؛
لأنها صادرة عنه بالضرورة.

 
 

قوام الوطن معابد الآلهة وقبور الأجداد، وأنت مواطني بوحدة الذكريات والأماني.

 
 

لا تولد الوطنية بغضًا إلَّا في العقول المحدودة، والقلوب العنيفة التي تضيق ذرعًا بفهم
التضامن الإنساني، فلا تدرك أنَّ مصير طائفة من الناس متصل في هذه الدنيا بمصير
الناس أجمعين.

 
 

ليس الشر في أنك تحيا، بل في علمك أنك تحيا، الشر هو في المعرفة والإرادة.

 
 

إنَّ الرجوع إلى العلم في التمييز بين الحادثات الطبيعية والحادثات الخارقة لكالتسليم
بأنه الحكم المعصوم في هذه الدنيا: لا نكران أنَّ للعلم وحده في عصرنا أنْ يفصل بين
الرشد والضلال، وأنه لا يصل إلى المعرفةشيء إلَّا بعد تحقيقه وبإذنه، وأنه لا يعترضعلى
حكمه إلَّا لديه، ولكن من الجهة الأخرى لا يجب أنْ تُستدعى كل الحادثات إلى محكمته
على صورة واحدة لا تبديل لها، فقد تكون ثمة حادثات فريدة نادرة دقيقة، إذا ظلَّ العلم
ينتظرها في لجانه لم تجئ إليه قط، وهنا يبدو لي ما في تدليل أرنست رنان « الرسمي »
من خطر في مراميه إنْ لم يكن في أصله، فهو يذهب إذا لم يحترز منه إلى ردِّ كل ما
لا يُحصل عليه في المختبر، والعلماء ميالون بالطبع إلى إنكار الحادثات المفردة، التي لا
تدخل في دائرة ناموس معروف، فأنا أخشىأنْ ينتهي بهم الأمر إلى رفضالظهورات غير
إذا كانت «. هذا لم يُرَ مثله من قبل » : المألوفة، والظهورات الخارقة على السواء، بقولهم
المعجزات مخالفاتٍ لنواميس الطبيعة فليس يعلم أحد ما هي؛ لأنه لا أحد يعرف نواميس
الطبيعة. لم يشهد فيلسوف معجزةً في زمن، بل هو عاجز عن أنْ يشهد ذلك، فلو اجتمع

كل صانعي الأعاجيب حوله وعرضوا لأنظاره أعجب الظهورات لأضاعوا وقتهم؛ لأنه إذ
ينظر إليها لا يهتم إلَّا بالبحث عن الناموس الذي يصح إدخالها فيه، فإذا لم يوفق إلى
لهذا نقول إنه «. إنَّ مجاميعنا الطبيعية والكيميوية ناقصة جدٍّا » : كشفه اكتفى بأن يقول
لم تحصل معجزة قط، أو إذا حصلت معجزة، فليس في الإمكان أنْ نحيط علمًا بذلك —
النتيجة على كلتا الحالتين واحدة — لأنا نجهل الطبيعة، وإذن نجهل ما ليس في الطبيعة.

 
 

لأن المؤمنين قد «. لم يقم على المعجزات دليل، فإذن لا وجود لها » : لا ينبغي أنْ نقول
يدعونك حينئذ إلى تحقيق أكمل، والحقيقة هي أنَّ المعجزة لا يصح أنْ تثبت لا اليوم ولا
غدًا؛ لأن إثباتها هو كتقديم نتيجة مبتسرة أو سابقة لأوانها، في أقصىضميرنا ما ينبئنا
بأن كل ما يكنه صدر الطبيعة مطابق لنواميسها المعروفة أو المجهولة، بَيْدَ أنَّ المرء إذا
هذا الحادث هو في خارج » : قدر على إسكات هذا الصوت في باطنه، فلن يستطيع أنْ يقول
لأن استكشافنا لن يصل إلى تلك الحدود، وإذا كان الأصل في المعجزة ألَّا «. حدود الطبيعة
تقع تحت معيار المعرفة، فالدين الذي يثبتها يسند دعواه إلى شاهد لا يمكن إمساكه، ولن
يحضرإلى آخر الدهر.

 
 

إنَّ المعجزة نظرية صبيانية تزول متى بدأ الفكر يتمثل الكون تمثلًا منظمًا، وقد كانت
حكمة الإغريق لا تطيق شيئًا من هذا القبيل، فكان بقراط يقول في حديثه عن داء الصراع:
فهو يتكلم «. يسمون هذا الداء بالداء الإلهي، ولكن الأمراضكلها إلهية وتأتي من الآلهة »
بصفته فيلسوفًا ماديٍّا، لكن العقل البشري أضعف اليوم يقينًا وأقل تثبتًا، ولا يغضبني
«. نحن لا نؤمن بالمعجزات؛ لأنه لم يقم على إحداهن دليل » : أحد كالقائلين

 
 

… لن نفتأ نحب هؤلاء الميامين الذين ترسل شفاههم إلى آذاننا تلك السلاسل الذهبية التي
حدثت عنها أساطير الغاليين. لن نفتأ نُقاد بحسن القول وفصاحة اللسان.

 
 

لاشيء في الدنيا أجل من الألم.

 
 

لا ينبغي لك أنْ تسأل المرأة كلشيء، وخذ اللذة حيث تجدها.

 
 

السيئ في الرغبات، حتى في أبسطها، هو أنها تخضعنا للغير وتجعلنا غير مستقلين.

 
 

… كل مصائبنا باطنة ونحن مسببوها، نحسب خطأً أنها تأتينا من الخارج، ولكننا نكونها
في باطننا من نفس مادتنا.

 
 

لا شيء في ذاته مشرف أو معيب، عادل أو ظالم، مستحب أو مستكره، حسن أو سيئ،
فإن رأيك هو الذي يهب الأشياء صفاتها، كالملح في الطعام.

 
 

ما التاريخ؟ مجموعة أقاصيصأخلاقية، أو مزيج من الحوادث والخطب البليغة حسبما
يكون المؤرخ فيلسوفًا أو واعظًا، قد توجد فيه قطع بيانية جميلة، ولكن لا ينبغي أنْ
نلتمس فيه الحقيقة؛ لأن الحقيقة هي في إظهار ما بين الأشياء من نسب لازمة، ولا سبيل
إلى إثبات هذه النسب؛ لأن المؤرخ عاجز عن اتباع سلسلة العلل والمعلولات، انظر! كلما
كانت علة الحادث التاريخي من حادث غير تاريخي، فإن علم التاريخ لا يراها، ولما كان
بين الحوادث التاريخية والحوادث اللاتاريخية صلة مكينة، فينتج عن هذا أنَّ الحوادث لا
تتسلسل في التواريخ تسلسلًا طبيعيٍّا، بل ترتبط بروابط بيانية صنعية، ليس إلَّا، كذلك
لا يعزب عن فكرك أنَّ المؤرخين يميزون بين الحوادث التي تدخل في التاريخ، والحوادث
التي لا تدخل فيه إلَّا اعتباطًا، ليس التاريخ إذن بعلم؛ لأنه مقضيٌّعليه، بعيب في طبيعته،
أنْ يلزمه غموضالكذب، وأنْ يعوزه السياق والاتصال اللذان لا معرفة حقيقية بدونهما،
كذلك لا يمكن أنْ تستخرج من أخبار الأمم وسيرها أقل دلالة يرجم بها عن مستقبلها.
ولما كانت خاصة العلوم التنبؤ والإخبار عن الحوادث الآتية كما هو مشاهد في الألواح
التي تعين فيها بالحساب الآهلة ومد البحر وجزره والكسوفات قبل وقوعها، فقد أثبتنا
أنَّ التاريخ ليس بعلم؛ لأن الثورات والحروب لا تضبط بحساب.

 
 

علامَ تؤلف تاريخًا؛ إذ ليس عليك إلَّا أنْ تنسخ من أشهر كتب التاريخ كما هي العادة؟
إنْ كان عندك فكر جديد ورأي خاص، أو كنت تظهر الناس والأشياء من وجهةٍ غير
مألوفة، فإنك إذن تباغت القارئ، والقارئ لا يحب أنْ يباغَت، هو لا يلتمس في التواريخ
إلَّا الحماقات التي يعرفها، فإذا اجتهدت لتعليمه كانت ثمرة جهدك أنك حقرته في عين
نفسه، فأغضبته، لا تحاول إنارة فكره وإلَّاصرخ قائلًا: إنك تسفه عقائده.

 
 

… وهل الحياة ذاتها بريئة البراءة كلها؟ هل يستطيع أفضلنا أنْ يهنئ نفسه وهو يسلم
الروح على أنه لم يسئ إلى أحد من الناس؟ هل نعلم ما تكلفه الكلمة تخرج اليوم من
أفواهنا ما قد تكلف رجلًا مجهولًا من أَتراح وآلام؟ هل نعلم إذ نرسل السهم المجنح أيَّ
كبد سيصيب في سيره المقدور؟ ألم يقل الذي جاء إلى هذه الدنيا لينزل ملكوت السماء
«!؟ أتيتكم بالسيف لا بالسلام » : ذات يوم وهو في جزع النبوة
ومع ذلك، فهو لم يعلم تنازع البقاء ولا ضلالة الحرية الإنسانية، فأي نبي بعد هذا
الذي يبشر به لن يكون ملطخًا بالدماء؟ كلا، « السلام » النبي يستطيع أنْ يضمن لنا أنَّ
كلا! ليست الحياة بريئةً، ولا يحيا المرء إلَّا بافتراس الحياة والتفكير، وهو أيضًا فعلٌ من
الأفعال، له نصيب من القساوة الملازمة لكل فعل، لا يوجد فكرة مسالمة قط، وكل فلسفة
يُراد أنْ تسود فهي حبلى بالخصومات والمظالم والشرور.

 
 

التغييرشرط جوهري في الحياة، والمدن كالناس تبقى ما زالت متغيرةً متطورةً.

 
 

نحن إذ زينا ملذاتنا جوَّدنا أيضًا آلامنا.

 
 

كلما تقدمت في السن، ازددت يقينًا بأن أندر مظاهر الشجاعة هي الشجاعة الفكرية.

 
 

وظيفة القاضيالجليلة هي أنْ يضمن لكلٍّ ما يخصه؛ للغني غناه وللفقير فقره.

 
 

إنَّ الأقيسة المنطقية لتحار أمام البداهة، ويمكن القول: إنَّ من المستطاع إثبات كل شيء
خلا ما نحسُّ أنه حق، أمَّا إذا عرض لنا موضوع عويص، فالتدليل الآخذ بعضه برقاب
بعض، لا يدل إلَّا على لباقة الفكر وشدة العارضة.

 
 

أثمن الجوائز ما يوليكشرفًا دون منفعة.

 
 

ليست طاعة الكاهن والجندي خلوٍّا من روعة الجمال.

 
 

ما الغرامة وعقوبة الإعدام إنْ لم تكونا السرقة والقتل يرتكبهما المجتمع بدقة جليلة؟ ألا
ترى أنَّ قضاءنا في خيلائه وجبروته لا يؤدي إلَّا إلى عار مجازاة الشر بالشر، والبأساء
بالبأساء، فيضاعف — لحفظ التوازن والانتظام — هذه الجنح والجرائم؟

 
 

إذا كان يخيل لنا في مهزلة هذه الحياة الجديرة بالإشفاق أنَّ الملوك يأمرون والشعوب
يطيعون، فهو خيال ووهم باطل، الحقيقة أنهم مساقون جميعًا — على السواء — بقوة
غير منظورة.

 
 

بأي حق يُنزِل الآلهة الخالدون رجل الخير والصلاح إلى دركات الثواب؟ إنَّ جزاء الخير
هو في عمل الخير نفسه، وليس في خارج الفضيلة ثمن جدير بها، فلندع للنفوس الحقيرة
خوف العقاب وأمل الثواب؛ لتأييد شجاعتهم الدنيئة، ولا نحبب في الفضيلة إلَّا الفضيلة
عينها.

 
 

إنَّ الماضيكالمستقبل مغيَّب عنَّا، نحن نعيش بين ظلمتين كثيفتين، في نسيان ما كان، وفي
الريب مما سيكون، ومع ذلك، فإن الفضول يدفعنا إلى معرفة علل الأشياء، والقلق يغرينا
بالنظر في مقدرات العالم والإنسان.

 
 

لا نضيع شيئًا من الماضي، فإن من الماضييُصنع المستقبل.

 
 

الأهواء خصيمات الطمأنينة، هذا مسلم، ولكن لولاها لم يكن في الدنيا لا صناعات ولا
فنون.

 
 

للهوى كل الحقوق؛ لأنه يقتحم كل المخاطر والعقوبات، وليس هو بمنافٍ للآداب مهما
ينتج من الشرور؛ لأنه يحمل في نفسه جزاءه الرهيب.

 
 

لقد كنت على الدوام مؤثرًا جنون الأهواء على ما في خلو البال أو عدم الاكتراث من تعقل.

 
 

الأهواء لا ينبغي أنْ نطعن فيها، فإن كل ما يعمل في الدنيا من الجلائل هو صنع يدها.

 
 

إنَّ الفقير الذي لا رغبات له يملك أعظم الكنوز؛ هو مالك نفسه، أمَّا الغني ذو المطامع
فليس إلَّا عبدًا شقيٍّا.

 
 

لا جمال في الدنيا إلَّا جمال الأهواء، ولا نصيب لها من العقل، وأجملها أيضًا أبعدها عن
الصواب وهو العشق. هل كان في رأسروميو وجوليت ذرة من العقل؟ ولكن لله ما أحبهما
إلى النفس، يوجد هوًى أقرب إلى الصواب من سائر الأهواء وهو البخل، ولكن لله ما أشنعه
فيا لشقاء من لا يشبه في بعض «. لا يسليني إلَّا المجانين » : وما أكرهه! كان دكنز يقول
الأحيان دون كيشوت! فيحسب طواحين الهواء جبابرةً يحاربون، لقد كان دون كيشوت
العجيب ساحر ذاته، فرفع الطبيعة وساواها بنفسه الكبيرة.
ومن كان كذلك، فليس مخدوعًا ولا مغبونًا، إنما المخدوعون الذين لا يرون أمامهم
شيئًا جميلًا أو شيئًا جليلًا.

 
 

لولا الحب لجهلنا الحد الذي يبلغ إليه صبر البشر وشجاعتهم.

 
 

إنَّ الحرب اليوم هي عار الإنسانية، وكانت من قبل فخرها، لقد أوجبتها الضرورة على
الممالك، فكانت مربية النوع البشري الكبرى، فيها مارس أبناء آدم الفضائل التي تُشاد
عليها الحضارات، وتدعم بها قواعدها؛ علمتهم الصبر والحزم، والاستهانة بالمخاطر،
ومجد التضحية، ويوم دحرج الرعيان قطع الحجارة الضخمة ليبنوا منها سورًا يحامون
وراءه عن نسائهم وثيرانهم، أنُشئ أول مجتمع إنساني وضُمن ترقي الصناعات، وهذا
الخير العظيم الذي ننعم به؛ أعني الوطن أو المدينة، أو ذلك الشيء الجليل الذي عبده
الرومان ورفعوه فوق الآلهة، إنما هو ابن الحرب.
كانت أول مدينة سورًا حصينًا، وفي هذا المهد الخشن الدامي تغذت الشرائع القدسية،
والصناعات الجميلة، والعلوم والحكمة؛ لذلك أراد الإله الحق أنْ يُدعى إله الجيوش.
… ولكن ليست الحرب في مجتمعنا الحاضر إلَّا داءً وراثيٍّا، أو رجعةً فاسقةً إلى
الحياة البربرية أو حماقةً مجرمةً، فإن أمراء هذا العصر، ولا سيما الملك المتوفى، قد وسمت
جباههم بالعار على أنهم جعلوا الحرب لعبةً يتلهى بها رجال البلاط، ويحزنني التفكير
بأننا لن نشهد ختام هذه المجازر المجمع عليها.
أمَّا المستقبل، المستقبل الذي لا يُسبر غَوْره، فَأْذن لي يا بني أن أتمثله أقرب إلى روح
العدل والوداعة الذي يكنه فؤادي، فالمستقبل خير موضع نضع فيه أحلامنا؛ فيه يبني
أو مملكة الخيال، وأود أنْ أعتقد أنَّ البشر سيعرفون أخيرًا « الأوتوبيا » الحكيم، كما في
الفضائل الهادئة، فإني لأجد علامة السلام العام البعيدة في ذات تكاثر التسليح وتعاظمه،
إنَّ الجيوش لا تفتأ في ازدياد عَددًا وعُددًا، وستقع ذات يوم في مهاويها السحيقة شعوبٌ
برمتها، وحينئذٍ يموت الوحش بداء الشبم، وينفجر لفرط السمن.

 
 

لم يبقَ لنا إلَّا إجلال الماضيدينًا، وفي هذا الدين صلة العقول المجددة بعضها ببعض.

 
 

ينعم المرء إذ يعيش بمخيلته في الماضينعيم الشعراء، ولكن فلنعلم أنَّ سحر الماضيليس
إلَّا من أحلامنا، وأنَّ العصور الغابرة التي ننشق عرفها بلذة، كان لها في جدَّتها ما لكل
الأشياء التي تجري في وسطها الحياة الإنسانية، من طعم عادي داعٍ إلى الحزن.

 
 

كبار الشعراء هم لكل الناس، أمَّاصغارهم فأحق بالغبطة أيضًا؛ لأن شعرهم لذة للمترفين
الذين لا يقنعون بما يقنع به العامة.

 
 

لا يلبث الرجل الذي ينظر في أعماله بعين العقل أنْ يرى أنَّ ما خلص منها وتنزه عن
الشوائب قليل جدٍّا. ينبغي أنْ تكون كاهنًا أو جنديٍّا لتجهل مخاوف الشك وتنجو من
جزعه.

 
 

لا نعجب بأنفسنا ولا نحسب أننا خيار، فنحن لسنا خيارًا، وإذا نظرنا إلى ذواتنا فلنكشف
عن وجهنا الحقيقي، فهو خشن فظ كوجه آبائنا، وأمَّا ولنا عليهم فضلُ ماضٍأبعد وتقليدٍ
أطول من ماضيهم وتقليدهم، فلنعرف بالأقل استمرار جهلنا ودوامه.

 
 

ليس ما يحدث في نفوسنا أبلغ أثر وأبقاه، كائنات حقيقية بل كائنات خيالية.

 
 

لا مسرة إلَّا في الوهم، ولا طمأنينة إلَّا في الجهل.

 
 

أمَّا والقانون موضوع لحماية المجتمع، فلا يمكن أنْ يكون أقرب إلى معنى العدل من
المجتمع نفسه، وما دام المجتمع قائمًا على الظلم، فستظل القوانين عاملةً على حماية الظلم
وتأييده.
… ثم إنَّ هذه القوانين على الأغلب عتيقة، لا تمثل ظلامةً حاضرةً، بل ظلامةً غابرةً،
وإذن أخشن وأشد قسوة هيصروح عصرالسوء لا تزال قائمةً في زمن أرق وأحلم.

 
 

ما كان الجبن قط دليل التعقل.

 
 

انظروا إني عجوز، » : تقول المدينة الصغيرة للمسافرين الذين يتأملونها من أعالي الأكمة
ولكنني جميلة، لقد طرَّز أبنائي البررة ثوبي بالقلاع والقباب والقصور والبروج، أغذي
أبنائي بين ذراعيَّ، فإذا قضوا أشغالهم انصرفوا بعضهم إثر بعض؛ ليناموا عند قدمي،
تحت العشب الذي يرتعيه الخرفان، يمضيأبنائي ويموتون، ولكنني أبقى لحفظ ذكراهم،
فكأني حافظتهم؛ لذلك هم مدينون لي بكلشيء؛ لأن الإنسان ليسإنسانًا إلَّا لأنه يُذكر، لقد
مزقت الحروب ثوبي وخرقت صدري، وأصُبت بجراح زعموا أنها مميتة، لكنني ما زلت
حيَّةً؛ لأني رجوت، فتعلموا مني هذا الرجاء القدسي الذي ينجي الوطن، انظروا إلى هذه
العين الجارية وهذا المستشفى، وهذه السوق التي أورثها الآباء أبناءهم، اعملوا لأولادكم
كما عمل والدوكم لكم، إنَّ كل حجر من حجارتي يوليكم نعمةً، ويعلمكم واجبًا، انظروا
إلى كاتدرائيتي، انظروا إلى ملجئي، انظروا إلى مستشفاي، وكرموا الماضي، ولكن فكروا
«. أيضًا في المستقبل، فيعلم أبناؤكم أي جواهر حليتم بها، إذ أتى دوركم ثوبي الحجري

 
 

يكفي ألَّا تحددهما لتفهم معناهما الصحيح، إنَّ في هاتين « العدل » و « الحقيقة » كلمتا
الكلمتين بحد ذاتهما لجمالًا يضيء ونورًا سماويٍّا.

 
 

لا يستطيع أحد أنْ يجزم بأن المذهب الذي تبدو في النتائج الأولى أضراره ومساويه، لن
يكون في الغد نافعًا كثير الخيرات، فكل الأفكار التي يقوم المجتمع عليها اليوم كانتضارةً
متلفةً قبل أنْ تصبح واقيةً محسنةً، وباسم المصالح الاجتماعية التي يتوسل بها المسيو
برونتيار حُوربت في الماضيمبادئ التساهل والإنسانية زمنًا طويلًا.

 
 

يجمل بنا أنْ نرد العدل البشري إلى مبدئه الحقيقي؛ أعني مصلحة الأفراد المادية، وأن
نعرِّيه من زخرف الفلسفة العالية التي يترداها رياءً باطلًا وفخفخةً فارغةً.

 
 

كل ما فكر فيه امرؤ، واعتقده في حياته القصيرة، هو جزء من هذه الحقيقة اللامتناهية،
أعني الترتيب والانتظام والنظافة، ؛« العالم » وكما أنه يدخل كثير من الأقذار فيما يدعونه
الكلية التي هي « الحقيقة » فكذلك حِكم المجانين والأشرار، وهم الأغلبية، مستمدة من
مطلقة دائمة إلهية.

 
 

قلما يسئمني الذين لا يتكلفون، بل يظهرون كما هم في حقيقتهم، وقد يسلونني.

 
 

المجد كالحسناء لا يمنح نفسه إلَّا لخاطب.

 
 

لا أنكر أنَّ الحرية رأس الخيرات للأمة، ولكن كلما تقدمت في السن ازددت يقينًا بأنه
لا يضمن الحرية للأفراد إلَّا حكومة قوية، إني تقلدت خلال أربعين سنةً أعلى مناصب
الدولة، فعلمني الاختبار الطويل أنَّ الشعب متى كانت حكومته ضعيفة ظُلم واضطهد؛
لهذا فإن أولئك الخطابيين الذين يعملون لإضعاف السلطان يرتكبون أشنع الجرائم، وإذا
كان الملك المطلق يصرف إرادته أحيانًا إلى وجوه الشر، فإن من المستحيلات تقرير أمر
من أمور الدولة بناءً على اتفاق المجموع، وقبل أنْ يغمر السلم الروماني العالم بأسره، لم
تسعد الأمم إلَّا في عهد المستبدين الأذكياء.

 
 

كان الرئيس غريفي موفور العقل، فألغى عقوبة الإعدام بالفعل، فلم تُنفذ في عهده قط،
ليت الذين خلفوه اقتدوا به، فإن أمان الأفراد في المجتمع الحاضر لا يقوم على خوف
العقاب، وبعد فقد نسخت شريعة القتل في ظهراني فريق من الأمم الأوروبية، فلم نرَ أنَّ
الجرائم فيها زادت على جرائم البلدان التي احتفظت بهذه الفعلة الشنعاء، بل إنَّ عقوبة
الإعدام في هذه البلاد نفسها سائرة إلى الاضمحلال، لا حول لها ولا فعل، كأنها أضاعت
أصلها الذي تصدر عنه. إنَّ مبدأَي العدل والحق اللذين كانا في الماضييسقطان رءوس
الخلق بأبهةٍ وجلال، قد تزعزعت اليوم أركانهما بسطوة المبادئ الأخلاقية الجديدة التي
نشأت عن تقدم العلوم الطبيعية، فأمَّا ونحن نرى رأي العين عقوبة الموت تموت، فمن
الحكمة أنْ ندعها تموت.

 
 

متى يشتبك البيضبالصفر أو بالسود، يجدوا أنفسهم مكرهين على إبادتهم؛ إذ لا يغلب
المتوحشون إلَّا بتوحشبالغ الإتقان، وهذا هو الحد الذي تنتهي عنده المشاريع الاستعمارية
كلها.

 
 

لا مراء في أنه ستقع أيضًا حروب كثيرة؛ فإن الغرائز الوحشية والأطماع الفطرية والكبرياء
والجوع التي أقلقت العالم خلال عصور متطاولة ستستمر على إقلاقه أيضًا، وهذه الكتل
البشرية الكبرى الآخذة اليوم في التألف، لم تجد بعد قاعدتها، ولم توفق إلى توازنها،
كذلك فإن تداخل الشعوب بعضها في بعضلم ينتظم الانتظام الكافي لضمان الرفاه العام
بحرية المبادلات ويسرها، كما أنَّ الإنسان لم يصبح بعد محترمًا في نظر الإنسان، ولم
تتساوَ أجزاء البشرية في دنوها من روح الاشتراك والتعاون؛ لتكون جميعًا كالحجيرات
والأعضاء في الجسد الواحد، وليس بمقدر حتى لأحدثنا سنٍّا أنْ يشهد ختام عهد السلاح،
بَيْدَ أنَّ تلك الأيام السعيدة التي لن نعرفها نحن نحسُّ مجيئها، فإذا مددنا إلى عالم الغيب
هذا الخط الذي نرى بدايته، كان في وسعنا أنْ نرى مواصلات أوفر وأكمل بين الأمم
والشعوب، وشعورًا أعم وأقوى بالتضامن الإنساني، وتنظيمًا أفضل للعمل، وبالنهاية
في العالم بأسره. « الدول المتحدة » قيام
وسيتحقق السلم العام ذات يوم، لا لأن البشر يصبحون خيرًا مما كانوا — هذا لم
يؤذن لنا أنْ نرجوه — بل لأن نظامًا جديدًا للأشياء، وعلمًا جديدًا، وضرورات اقتصادية
جديدة ستلزمهم بحالة السلام، كما كانت ضرورات الحياة في الماضي ترميهم في حالة
الحرب وتبقيهم فيها.

 
 

يلوح لي أنَّ الإنسان إنما يشقى لإفراطه في إجلال نفسه وفي الثقة بالناس، فلو كان رأيه
في الطبيعة البشرية أصح وأقرب للتواضع، لأصبح في أحكامه على نفسه وعلى الناس أرق
وأحلم.

 
 

إنَّ مجتمعنا — وا أسفاه — مملوء صيادلة يخافون المخيلة، هم في ضلال؛ لأن المخيلة
هي التي تبذر بأكاذيبها بذور الجمال والفضيلة في هذه الدنيا، ولا يكون المرء عظيمًا إلَّا
بها، فيا أيها الأمهات لا تخشيْنَ أنْ تضلَّ المخيلة أبناءكن؛ فإنها على الضد من ذلك تقيهم
الخطايا الدنيئة والأغلاط السهلة.

 
 

يمكن أنْ نعرِّف الإنسان هكذا: الإنسان حيوان ذو بندقية. هب له بذلةً جميلة وأمل المضي
إلى الحرب يطبْ نفسًا؛ لهذا جعلنا الجندية أشرف المهن، وهو الصواب من جهة أنها
أعرقها في القدم؛ لأن أبناء آدم الأولين تقاتلوا أولًا.
والجندية ملائمة للطبيعة الإنسانية من جهة أنَّ الإنسان في الجيش لا يفكر مطلقًا،
ومن البين أننا لم نُخلق لنفكر، فالتفكير داء خاصببعضالناس، إذا عمَّ كان منذرًا بفناء
النوع.
ويعيش الجنود جماعةً، والإنسان حيوان اجتماعي، ويلبسون ملابس زرقاء بيضاء،
وزرقاء حمراء، ويتزينون بالحرير والريش، مما يجعل لهم على البنات فضل الديك على
الدجاجة.
والجنود في الحرب يطمعون في السلب والسبي، والإنسان سراق شهواني، مخرب
محب للمجد، بالطبع، إنَّ حب المجد هذا هو الذي يهيب بقومنا الفرنسيس خاصَّةً إلى
حمل السلاح، وحسبك لتتيقن من ذلك أنْ تقرأ التواريخ.

 
 

نظرت مليٍّا في فلسفة القانون، فعلمت أنَّ العدل الاجتماعي بتمامه يقوم على قاعدتين؛
أولاهما: أنَّ السرقة محرمة، وثانيتهما: أنَّ ثمرة السرقة مقدسة. هذان هما المبدآن اللذان
يكفلان للأفراد السلامة، وللدولة الأمن والنظام، فإذا جُحد أحدهما أو أغفل انهار البناء
كله.
وضع هذان المبدآن في فجر التاريخ يوم تقدم الرئيس رجاله، وهو مكتسٍ جلد
دب، مسلح بفأس من الصوان، متقلد خنجرًا من نحاس، فدخلوا السور حيث تركوا
أولاد القبيلة مع قطعان النساء والوعول، عادوا يسوقون أبناء القبيلة المجاورة وبناتها،
ويحملون الحجارة الساقطة من السماء، الثمينة لأن منها تُصنع السيوف التي لا تنثني،
فوقف الرئيس على مرتفع من الأرض في وسط الحمى، وقال: غنمت هؤلاء العبيد وهذا
الحديد من القوم الضعاف اللئام، فهم لي، ومن مدَّ إلى عبيدي وحديدي يدًا، أهويت على
رأسه بهذا الفأس.
وهذا هو أصل القوانين، روحها عريق في القدم والبربرية، والعدل يُطمئن كل الناس؛
لأنه يحمي كل المظالم.

 
 

لا أدري فرقًا عظيمًا بين الكل واللاشيء، ويبدو لي أنَّ اللسان عاجز عن التمييز بينهما، إنَّ
اللانهاية تشبه العدم شبهًا تامٍّا، فكلاهما يستحيل تصوره، ورأيي أنَّ الكمال يكلف ثمنًا
غاليًا، فهو إنما يُشرى بالوجود، ويجب على من شاء أنْ يوصف به أنْ يضيع وجوده، تلك
بلية لم يسلم منها لله نفسه منذ خطر للفلاسفة أنْ يجعلوه كاملًا.
فإذا كنا بعد هذا لا نعلم ما العدم، فنحن نجهل أيضًا ما الوجود، ونحن بالجملة لا
نعلم شيئًا، يقولون: إنَّ من المستحيل أنْ يتفاهم البشر، أمَّا أنا فأقول من المستحيل — رغم
ضجيج المجادلات — ألَّا يتفقوا في النهاية، متى دفنوا جنبًا لجنب تحت ركام المناقضات
التي يجمعونها من أقدم الأزمنة حتى بنوا منها جبلًا فوق جبل.

 
 

ليسالموقف أو الحادث في القصصلمن يوفق إليه أولًا، بل لمن يثبته بقوة في حافظة البشر.
يحسب أدباء العصرأنَّ الفكر أو المعنى مما يصح أنْ يكون ملكًا لواحد دون سائر
الناس، وهذا حسبان لم تعرف العصور الحالية له مثيلًا؛ لأن السرقة الأدبية لم تكن
يومذاك مثلها في هذه الأيام، ويبدو لي أنَّ الرأي القديم في هذا الصدد خير من الرأي
الحديث؛ لتجرده وسموه وموافقته لمصالح جمهورية الآداب، فالكاتب الذي لا يأخذ من
غيره إلَّا ما كان حسنًا مفيدًا، ويختار ويحسن الاختيار، هو رجل فاضل مستقيم.

 
 

سذاجة الفلاسفة لا يُسبر غَوْرها.

 
 

يقال: إنَّ الفلاسفة الذين يبحثون عن المبادئ والعلل، هم كالفيلة التي إذا مشت لم تضع
على الأرضالقدم الثانية إلَّا متى ثبتت القدم الأولى.

 
 

حقٌّ لكل عالم، بل فرضٌ عليه، إذا كان عنده رأي في هذا الكون أنْ يبديه مهما يكن
رأيه، وعلى من حسب أنه يعرف الحقيقة أنْ يذيعها، فإن هذا مما توجبه كرامة العقل
البشري، ولكنَّ آراءنا في الطبيعة ليست إذا رددناها إلى أصولها؛ لا كثيرة العدد ولا حسنة
التنوع، فالإنسان منذ قدر على التفكير لا يفتأ يدور في دائرة من النظريات واحدة، لقد
أثُير الخلاف والجدل حول حرية الفكر، وسيظلان مُثارَيْن، إلا أن حقوق الفكر فوق كل
شيء، وأجلُّ مفاخر المرء أنْ يجرؤ على إبداء كل الآراء، أمَّا السيرة في الحياة، فلا ينبغي أنْ
تكون متوقفةً على مذاهب الفلاسفة المجردة.

 
 

إنَّ رجلًا وحده لشيء يسير، وإنْ يكن رجلًا عظيمًا، لا يعلم الناس جيدًا هذه الحقيقة،
وهي أنَّ الكاتب مهما يكن مطبوعًا فهو يستعير أكثر مما يخترع، ليست اللغة التي يكتب
بها ملكًا له، ولم يخلق القالب الذي يصب فيه فكره من الموشح إلى الرواية التمثيلية
فالقصة، وهو أيضًا لا يملك نحوَه ولا عروضه، بل ماذا أقول؟ إنَّ نفس معانيه وأفكاره
تُلقى إليه من كل ناحية، لقد أعُطي الألوان هبةً، وهو لا يعطي إلَّا دقائقها التي لا أنكر أنها
جد ثمينة في بعضالأحيان، ليكن لنا إذن من جودة العقل ما يكفي للإقرار بأن مؤلفاتنا
ليست لنا بتمامها، أجل، إنها تنمو فينا، ولكن جذورها محجوبة في الأرضالخصيبة التي
تغذيه؛ لنقرَّ بأنا مدينون للناس جميعًا بالشيء الكثير، وبأن الجمهور الذي نزف إليه
مؤلفاتنا هوشريكنا فيها.

 
 

إنَّ أمراضالنفس والجسد تهب أحيانًا المبتلين بها قوًى لا يملكها الأصحاء، والحقيقة أنَّ
الصحة الجيدة والصحة الرديئة لا وجود لهما، فليس ثمة إلَّا حالات للأعضاء مختلفة،
لقد درست الأمراضدرسًا وافيًا أدى بي إلى اعتبارها الصور اللازمة للحياة، وإني لأجد
في دراستها لذةً تربو على لذة محاربتها، فإن منها ما لا يستطيع المرء أنْ يراه إلَّا معجبًا
مأخوذًا به، كتلك التي تخفي تحت عوارضالاختلال انتظامًا عميقًا، ومن المؤكد أنَّ حمَّى
الربع شيء جميل، كذلك قد تكون أمراضالجسد دواعي إلى إثارة قوى النفس وإعلائها
فجأةً.

 
 

لست أظن سوءًا؛ لأني أعتقد أنَّ البشر عاجزون عن إتيان الشر والخير على السواء، بل لا
وجود للخير والشرإلَّا في رأي الناس، والعاقل من اتبع في أعماله العرف والعادة، ليس إلَّا.

 
 

إنَّ المرأة لا تجلب للرجال اللذة، بل الحزن والقلق والهموم السود، والحب علة آلامنا
اللاذعة، اسمع أيها الغريب، إني ذهبت في صباي إلى تريزين من أعمال الأرغوليد، فرأيت
فيها آسةً لا مثيل لها في العظم، ملأت أوراقها وخزات لا يحصيها العد، وإليك ما يقوله
أهل البلد في شأنها: زعموا أنَّ الملكة فيدر لما أحبت هيبوليت كانت تقضيسحابة يومها
مضطجعةً في برج الوجد، تحت هذه الشجرة الباقية إلى يومنا هذا، فكانت في سأمها
المميت تأخذ الدبوس الذهب الذي يمسك شعرها الأشقر، وتخز به أوراق الشجرة ذات
الحب العاطر، وهكذا أثخنت الأوراق كلها وخزًا، وبعد أنْ أضلت فيدر ذلك الفتى البريء
الذي كانت تلح عليه بهواها الحرام، ماتت كما تعلمشرميتة، اختلت في مقصورة العرس،
وشنقت نفسها بزنارها المذهب معلقًا بمسمار من العاج، وبمشيئة الآلهة ظلت الآسة التي
شهدت الفاجعة تحمل أوراقها الجديدة وخزات الدبوس، لقد قطفت إحدى هذه الأوراق
ووضعتها على وسادة مضجعي؛ لتحذرني على الدوام عواقب الاستسلام لجنون الحب،
ولتثبتني على مذهب أستاذي أبيقور الإلهي الذي يعلِّم أنَّ الشهوة مخوفة، ولكن الحقيقة
هي أنَّ الحب داء في الكبد، ولا يأمن أحد قط أنْ يصيبه الداء.

 
 

لماذا تريدون أنْ يعامل الغني الفقراء بغير ما يعامل الأغنياء والقادرين؟ إنه يفي الدَّيْن
الذي لهم عليه، وإذا لم يكن لهمشيء فهو لا يؤديهم شيئًا، هذه هي الاستقامة بعينها.
إذا كان مستقيمًا فليعامل الفقراء على هذه الصورة، ولكن لا تقل: إنَّ الأغنياء ليسوا
مدينين للفقراء بشيء، فإنك لن تجد غنيٍّا واحدًا يقول هذا القول، غاية ما في الأمر أنَّ
الشكوك تحوم حول مقدار الدَّيْن، ولا يرغب الأغنياء في الخروج من هذه الشكوك؛ لأنهم
يؤثرون البقاء في حالة الإبهام؛ يعلم الغني أنه مدين، لكنه لا يعلم مقدار الدَّيْن، فهو يؤدي
حينًا بعد حين دفعةً صغيرةً على الحساب، هذا هو الإحسان، وهو في مصلحة الأغنياء.

 
 

إنَّ ما تحرمني الشيخوخة منه — إذا شئت أنْ تعلمه — هو ما تحرم منه جميع الذين
يمسهم سوءها، تصرف عني عين الرضىمن التي هي نعيم البشر والآلهة، أجل، إنَّ هذه
لم تخصني بحظوةٍ عظيمة، بَيْدَ أنها أنعمت عليَّ لحبي إياها برؤية جمال الأشياء، والتمتع
بالملاذ الوحيدة التي تجعل حمل الحياة في الطاقة البشرية، ولكن هذه الآلهة، وا أسفي! لا
تعرف الشيوخ.

 
 

للمتوحشين عادة لا أستنكرها، وهي أنهم يصعدون شيوخ القبيلة إلى شجرة، ثم يهزون
بجزعها، فمن لم يجد منهم قوةً على الاستمساك بغصنه فسقط، قتلوه.

 
 

يشكرون لله على أنه خلق هذه الدنيا، ثم يشكرونه على أنه خلق الدنيا الآخرة التي تُرد
فيها مظالم تلك وتصلح مساويها.

 
 

إنَّ المبادئ الاجتماعية لأسرع تبدلًا من آراء الفلاسفة، كذلك هي لا تقوم على أساسمكين،
فلا يكاد الفكر يلامسها حتى ينقضَّبنيانها.

 
 

يتبادل البشرالقبلات من عهد بعيد جدٍّا، فيا للعجب ألَّا يزال أيضًا في الحب أسرار مجهولة،
والعشاق يعلمون من ذلك أكثر مما يعلم المنجمون.

 
 

كل ما تدركه الحواس ممقوت، في أصغر حبة رمل خطر عظيم، كلشيء يغوينا، وليست
المرأة إلَّا مجموعة كل الغوايات المبددة في النسيم الخفيف، والأرضالمزهرة والمياه الصافية،
طوبى لمن كانت نفسه إناءً مختومًا! طوبى لمن قدر على أنْ يخرس لسانه، ويعمي عينيه،
ويصم أذنيه، فلا يعرف من الدنيا شيئًا ليصل إلى معرفة لله.

 
 

لينظر جبابرة الأرض إلى مواطئ أقدامهم، لينظروا إلى الشعوب التي يقهرونها والمبادئ
التي يزدرونها، فإن من ثمة سوف تخرج القوة التي تصرعهم.

 
 

تتعاون الشعوب القوية على إقرار النظام وإنماء الثروة في العالم، أمَّا الشعوب الضعيفة،
كالترك والصين، فهي علة دائمة للقلاقل والشرور.

 
 

إنَّ الأدلة على حرية الإنسان قليلة جدٍّا؛ حتى إني لتأخذني الرجفة كلما فكرت في الأحكام
التي يعاقب بها القضاء على أعمال يغيب عنا مبدَؤُها وسياقها وسببها على السواء، وليس
للإرادة فيها نصيب يُذكر، بل يأتيها المرء أحيانًا دون معرفة.

 
 

ماذا يجدي أنَّ العدل في القوانين إذا لم يكن في القلوب؟ وإذا كانت القلوب مؤذية فهل
فلا «. نسنشرائع عادلة ونعطي كل واحد حقه » : يجدي أنَّ العدل في القانون؟! لا تقولوا
رجل عادل، ولسنا نعلم ما ينفع الناس؛ نحن نجهل على السواء ما هو حسن لهم، وما هو
سيئ، وكل مرة أَحب فيها الأمراء ورءوسالجمهورية العدل كانوا سببًا في هلاك كثير من
الناس.
لا تعطوا المساح الشرير مقياسًا وبركارًا؛ لئلا يقسم بالمقاييس العادلة قسمًا غير
ما «. انظروا إني أحمل المقياس والقاعدة والبركار، فأنا إذن مساح جيد » : عادلة، ثم يقول
دام البشر قساةً بخلاء، فهم يضعون القسوة والظلم في أرق الشرائع وأعدلها، وينهبون
إخوانهم بألفاظ الحب والعطف، فعبثًا تكشفون لهم عن كلمة المحبة وشريعة الرفق.
لا تعارضوا شريعةً بشريعة، ولا تنصبوا ألواح الرخام أو النحاس في وجه الإنسان،
فإن ما كُتب على ألواح القانون مكتوب بأحرفٍ من الدماء.

 
 

من العسير على الأغنياء، سواء في ذلك اليهود أم النصارى، أنْ يكونوا منصفين، ولكن
متى أصبحت الشرائع عادلةً يصبح الناس عادلين، وهؤلاء الاشتراكيون والأحرار يهيئون
المستقبل منذ الآن بمحاربة الاستبداد، وبث كراهة الحرب، وحب النوع الإنساني في ظهراني
الشعوب، يمكننا اليوم أنْ نعمل قليلًا من الخير، وهذا وحده ما يجعلنا إذا متنا نموت لا
يائسين ولا غضابًا، وإنْ يكن من المؤكد أنَّا لن نشهد فوز آرائنا.

 
 

يقوم المجتمع الإنساني على أساس مقدس من البخل والقسوة.

 
 

جاء أوريبيدس وجعل مقدرات الإنسان في الإنسان نفسه، وعين بواعث أعماله، وكان أول
من أظهر جمال تلك الأمراض النفسانية، التي لا أشك في أنها أجمل وأثمن من الصحة،
وأعني الأهواء.

 
 

لا يعرف المرء عدم التبصرإلَّا من قِبل أهوائه.

 
 

إنَّ الهوى الشديد لا يدع لصاحبه برهة راحة، وهذه هي حسنته وفضيلته، إنَّ كل شيء
هو خيرٌ من أنْ ترى أنك تحيا.

 
 

هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء صغار لا شأن لهم في نفسك، ولكن أعطهم شيئًا واحدًا
يعوزهم يصبحوا حسانًا، ويأخذوا بلبك، ليعرفوا الحب، وليكن في قلوبهم شعورًا صادقًا
وعاطفة بليغة تلقي بعضهم بين ذراعي بعض، فهم إذن لاصغار ولا مزدرون، بل هم على
إنَّ هؤلاء لسعداء، لقد أنزلوا السماءَ » : الضد من ذلك، يجذبون نفسك، وإذا مروا بنا قلنا
على الأرض، إنَّ أحدهم في عين صاحبه صورة الكمال الحية، إنهم يضعون اللانهاية في
برهة، ويحققون لله في هذه الدنيا، ينبغي أنْ نغبطهم حتى على آلامهم؛ لأنها تتضمن من
«. المسرات أكثر مما تتضمنه سعادة سائر الناس

 
 

الفكرشيء مخوف، إذن فلا نعجب من أنَّ البشريخشونه بالفطرة، لقد قاد إبليس نفسه
إلى العصيان، ومع ذلك فقد كان إبليسمن أبناءلله، هو الحامضالذي يحل الكون بحيث
إنه إذا أخذ الناس جميعًا يفكرون في وقت معًا، فإن هذا الكون يصير إلى العدم، ولكن
هذه النكبة ليست مما يُخشى وقوعه.

 
 

التفكير داء وبيل.

 
 

إنَّ الذين لا يفكرون إلَّا قليلًا، أو لا يفكرون مطلقًا، يقضون حوائجهم على أحسن حال في
هذه الدنيا والآخرة، أمَّا الكثيرو التفكير فهم أبدًا مهددون بالخسران روحًا وجسدًا لكثرة
ما في الفكر من خباثة.

 
 

ماذا تكون بوادي الحياة لولاسراب أفكارنا الساطع؟

 
 

إنَّ أفعالنا ليست منا تمامًا، بل هي للأقدار أكثر مما هي لنا، نحن نُعطاها جاهزة ولا
نستحقها دائمًا.

 
 

الجهل شرط لازم، لا أقول في السعادة، بل في الوجود نفسه، لو كنا نعلم كل شيء إذن
لما استطعنا الصبر على الحياة مقدار ساعة، فإن العواطف التي تجعل الحياة هنيئةً أو
بالأقل محتملة، تتولد عن أكذوبة وتتغذى بالأوهام.
ولو أنَّ رجلًا سما إلى مقام الألوهية، فأمسك الحقيقة، الحقيقة الواحدة الكلية
وتركها تسقط من يده، لاضمحل الكون فجأةً، وتبدد الوجود كالظل، فإن الحقيقة الإلهية
كالحساب الأخير، قادرة على أنْ تجعل الكون هباءً منثورًا.

 
 

يأتي حينٌ يصبح فيه التطلع خطيئةً، وقد لزم الشيطان دائمًا جانب العلماء.

 
 

سآمة الشعراء سآمة مذهبة، فلا تفرطوا في الرثاء لهم، إنَّ الذين يغنون قادرون على أنْ
يسحروا يأسهم، ولا سحر أقوى من سحر الكلام، والشعراء كالأطفال يعزون أنفسهم
بالصور.

 
 

العمل يجعل الحياة سعيدةً أحيانًا، ومحتملةً دائمًا.

 
 

من قال جيران، فكأنه قال أعداء، انظر إلى هذا الحقل الذي يتصل بحقلي؛ هو لِأبغض
الناس عندي، ويأتي بعده في البغض أبناء القرية التي تتسلق المنحدر الآخر من الوادي
عند تلك الغابة، لا يوجد في هذا الوادي الصغير سوى تلك القرية وقريتنا، وكلما التقى
صبياننا وصبيانهم تبادلوا الضرب والشتيمة.

 
 

إنا نرى » : أعرف بنيةً بلغت تسعًا من السنين هي أحكم من الحكماء، قالت لي منذ هنيهة
في الكتب ما ليس بوسعنا أنْ نراه بالفعل، إمَّا لأنه بعيد جدٍّا، وإمَّا لأنه في الماضي، لكن
ما نراه في الكتب لا نراه جيدًا، ونراه بشكل محزن، إذن لا ينبغي للصغار أنْ يقرءوا
في الكتب. يوجد أشياء كثيرة جديرة بأن يروها ولم يروها؛ البحيرات والجبال والأنهار،
«. والمدن والأرياف والبحر ومراكبه، والسماء وكواكبها
أنا من رأيها تمامًا، نحن نعيش ساعةً من الزمن، فلماذا نحمل أنفسنا كل هذه
الأعباء؟! علامَ نتعلم كثيرًا إذ نحن موقنون بأنا لن نعلم شيئًا؟ نحن نعيش في الكتب
أكثر مما ينبغي، وفي الطبيعة دون الكفاية، فنشبه ذلك الأبله بلينوس الأصغر الذي كان
يدرس أحد خطباء الإغريق، بينما كان بركان فيزوف يدفن على مرأى منه خمس مدن
تحت الرماد.

 
 

كلما فكرت في الحياة الإنسانية، ازددت يقينًا بأنه ينبغي أنْ نُشهِد عليها شاهدَيْن، أو
نقاضيها إلى قاضيَيْن؛ هما السخرية والشفقة، كما كان المصريون يحاكمون موتاهم إلى
الإلهة إيزيس والإلهة نفتيس. السخرية والشفقة ناصحتان أمينتان؛ الأولى تحبب إلينا
الحياة بابتسامها، والأخرى تجعلها مقدسةً ببكائها، وليست السخرية التي أعنيها قاسيةً
ولا موجعةً، كما أنها لا تستهزئ بالحب ولا بالجمال، هي رفيقة سمحة، تهدئ بضحكها
ثورة الغضب، وتعلمنا أنْ نسخر من الأشرار والحمقى الذين نبغضهم لولاها، والبغض
ضعف يشيننا.

 
 

إنَّ تأثيرات النور والهواء الخفية — أعني ألوف الآلام التي تنشأ عن الطبيعة بأسرها —
هي جزية تؤديها الخلائق الحساسة التي تلتمس مسراتها في الصور والألوان.

 
 

في الشعوب المتمدنة بربرية خاصة تزيد عما تخيله البرابرة أجمعين، فإن العلَّامة الجنائي
شرٌّ من شر المتوحشين، ومحب الإنسانية الحديث يخترعضروبًا من التعذيب لم تعرفها
فارس والصين، كان جلاد الفرس يميت السجناء جوعًا، فوجب أنْ يأتي محب الإنسانية
الذي لا تقاس بفظاعته فظاعة « الجيش المنفرد » ليتخيل قتلهم بالعزلة، وهذا هو بعينه
قط، لكن المبتلى به لحسن طالعه، يضيع رشده فيخلصه الجنون من الشعور بآلامه.
ويتوسلون إلى تبرير هذا المقت بزعمهم أنه يجب إبعاد المحكوم عليه من آثار السوء
التي يحدثها فيه أمثاله، وجعله في حالة لا يستطيع معها اقتراف الموبقات والجرائم، إنَّ
الذين يدللون هكذا هم حمقى إلى حدٍّ لا يسعنا معه أنْ نقول إنهم منافقون.

 
 

حينما يقول امرؤ: إنَّ الحياة حسنة، أو يقول: إنها سيئة، فهو يقول ما لا معنى له
البتة، يجب أن نقول: إنها حسنة سيئة معًا؛ لأننا نستمد منها، منها وحدها، فكرة الحسن
والسيئ، والحقيقة أنَّ الحياة لذيذة كريهة، فتانة مخوفة، حلوة مرة، وأنها كلشيء مثلها
مثل الطيلسان في أقصوصة فلوريان؛ أحدهم يراها حمراء، ويراها الآخر زرقاء، وكلاهما
يراها كما هي بالفعل؛ لأنها حمراء وزرقاء وفيها كل الألوان، وهذا من شأنه أنْ يوفق
بيننا جميعًا، وأنْ يصلح بين الفلاسفة الذين يمزق بعضهم بعضًا، ولكن في فطرتنا أنْ
نريد إكراه سائر الناس على أنْ يشعروا ويفكروا مثل شعورنا وتفكيرنا، وألَّا نأذن لجارنا
أنْ يكون فرحًا إذا كنا نحن محزونين.

 
 

إنَّ شرور الناس تأتيهم من أوهامهم وتقاليدهم، كما تدب العناكب والعقارب من ظلمة
الأقبية ورطوبة الجنائن، فمن الحسن أنْ نُعمل المكنسة بمثل خبط العشواء في كل هذه
الزوايا، ومن الحسن أيضًا أنْ نضرب جدران القبور والجنينة بالمعول حينًا بعد حين، فإن
هذا من شأنه أنْ يرهب الهوام، وأنْ يمهد للتخريبات اللازمة.

 
 

هذه مدينة مجيدة نبيلة، لكن النبالة ليست موزعةً بين سكانها جميعًا، بل محصورة في
فريق قليل منهم، بَيْدَ أنَّ المدينة كلها والأمة كلها إنما تقوم ببعضأفرادها الذين يفكرون
تفكيرًا أقوى وأصح من تفكير الآخرين، ولا يُعدُّ ما بقي شيئًا مذكورًا، إنَّ ما نسميه روح
الأمة لا يُتوصل إلى وجدان ذاته إلَّا في أقليات تدق على الأبصار، وما أقل الأفراد الذين
يجرءون على التملصمن مخاوف العامة، ويكشفون بأيديهم الحجاب عن وجهِ الحقيقة!

 
 

عواقب الحرب لا يحصيها حساب، تلقيت من صديقي الفاضل ويليام هاريسون رسالةً
ينبئني فيها أنَّ العلم الفرنسي أصبح مزدريًا بإنكلترة منذ سنة ١٨٧١ ، وأنَّ العلماء في
الذي وضعه « الموجز في علم الآثار » جامعات أكسفورد كمبريدج ودوبلن يتظاهرون بإغفال
موريسرينووار، رغم أنه أنفع للطلاب من أي كتاب آخر في موضوعه، ولكنهم لا يريدون
أنْ يدرسوا في مدرسة المغلوبين، زاعمين أنه يجب للوثوق بأقوال أحد العلماء في خواص
الفن الأيجي وأصول الخرافة الإغريقية، أنْ يكون ذلك العالم من أمة تحسن صبَّ المدافع،
سنة ١٨٧٠ ، والجنرال شانزي أضاع تلك « سدان » فأمَّا والمرشال مكماهون قد غُلب في
السنة أيضًا جيشه في ولاية المين، فهذا صديقنا موريس رينووار تصده أكسفورد سنة
١٨٩٧ أقبح صدٍّ، ولا تعبأ بمؤلفه القيم، هذه نتيجة بطيئة غير مباشرة، ولكن مؤكدة من
نتائج الحرب.
كذلك لا سبيل إلى إنكار أنَّ على قائم السيف يتوقف مصير الآداب والفنون.

 
 

قبل أنْ تغضب ألا يسعك أنْ تحاول فهم ما يُقال؟

 
 

ليست مناقضاتنا أبعد ما فينا عن الحقيقة.

 
 

لم يعوزني قط لأتمتع بالأشياء أنْ أكون مالكًا لها.

 
 

الحياة هي الشهوة، وحسبما نخال الشهوة حلوة أم مرة، نحكم بأن الحياة سعيدة أم
شقية.

 
 

يسأم المرء كلشيء إلَّا فهم كُنه الأشياء.

 
 

كنت في السادسة لما ابتُليت بهذا التطلع العظيم، الذي أصبح عذاب حياتي ونعيمها على
السواء، ووقف نفسي على نشدان ما ليس لنفسٍ أنْ تدركه.

 
 

يقامر المقامر كما يعشق العاشق، ويشرب السكير بالضرورة، على العمياء، مدفوعًا بقوةٍ
لا تُقاوم. يوجد أناس كُتب عليهم القمار مثلما يوجد أناس كُتب عليهم الحب. مَن الذي
اخترع حكاية ذينك النوتيين اللذين مسهما شيطان القمار؟ لقد غرقا ولم ينجوَا من الموت
بعد أشد المخاطر هولًا، إلَّا لأنهما امتطيا ظهر حوت، ولكن ما كادا يأخذان مكانهما حتى
تناولا النرد، وشرعا يلعبان، كل مقامر هو أحد هذين النوتيين، ومن الثابت أنَّ في القمار
ما يهيج أعصاب كل جريء مقدام، فليست باللذة الخسيسة لذة تجربة الأقدار، وليس
بنعيم لا سكر فيه نعيم الذين يذوقون في لحظة طعمَ شهور وأعوام، بل طعم حياة كاملة
ملأى بالخوف والرجاء.
كنت دون العاشرة يوم تلا علينا المسيو غربينه — أستاذنا في الصف التاسع —
ولكن ما زلت أذكرها كأحسن مما لو سمعتها أمس: يعطي ،« الإنسان والجني » حكاية
الجني أحد الصبية كبة خيطان، ويقول له: هذا الخيط هو خيط أيامك، خذه! وكلما أردت
أنْ تنقضيالأيام، فاجذب الخيط، فإن الأيام تمر بعجلة إذا حللت الخيط معجلًا، وبتؤدة
إذا حللته متئدًا، فإن لم تمس الخيط قط بقيت من حياتك في الساعة التي أنت فيها،
فأخذ الصبي الخيط وجذبه ليصير رجلًا، ثم ليتزوج الخطيبة التي يهواها، ثم ليرى بنيه
يترعرعون، ثم ليحرز الثروة الطائلة والرتب السنية، ثم ليجتاز الهموم وينجو من الأحزان
والأسقام التي وفدت عليه مع السن، وأخيرًا يا حسرتنا! لينهي شيخوخةً ثقيلةً ناصبةً،
وهكذا عاش الصبي منذ جاءه الجني أربعة أشهر وستة أيام.
وهل القمار إلَّا فن يستحضربه المرء في لحظةٍ كل الحوادث والتقلبات، التي لا يرسلها
القدر عادةً إلَّا في ساعات كثيرة أو في عدة سنين؟ وهل هو إلَّا فن يجمع به المرء في لحظة
كل الانفعالات المبددة في أعمار الناس الطويلة؟ هل هو إلَّا وسيلة يحيا بها المرء في بضع
دقائق الحياة كلها؟ هل القمار إلَّا خيط ذلك الجني؟ القمار جلادٌ بين الإنسان والقدر،
أوصراع يعقوب والملك، أو عهد الدكتور فاوست مع الشيطان، يقامر الإنسان على المال،
والمال هو الإمكان اللامتناهي في متناول يده، فرب ورقة تُسحب أو كرة تدحرج، قادرة
على أنْ تعطي المقامر الحدائق والجنائن، والحقول والغابات، والقصور المصعدة بروجها
في السماء، أجل، إنَّ في هذه الكرة الراكضة هكتارات من الأرضالخصيبة، وسطوحًا من
الصفاح تنعكس مداخنها المنقوشة على مياه اللوار، فيها كنوز الفن وآيات الذوق، فيها
أنفس الجواهر، وأجمل أجسام النساء، بل فيها أيضًا القلوب التي كنا نحسبها لا تُشرى،
وكل الأوسمة وكل المناصب العالية، فيها كل ما في الدنيا من نعمة ومن سلطان، ماذا
أقول؟ فإن فيها ما هو خير من كل ذلك؛ فيها الحلم به.
وتريدون ألَّا يقامر الإنسان؟ لو أنَّ القمار لا يعطينا إلَّا آمالًا بلا حدٍّ، ولا يرينا إلَّا
ابتسام عينيه الخضراوين لما جُننا به حبٍّا، لكن له أظافر من الماس، هو هائل يعطي إذا
شاء هواه البؤس والعار أيضًا، ولذلك عبده الناس.
إنَّ جاذبية الخطر لفي قرارة كل هوًى شديد، لا لذة عظيمة بلا دوار، والنعيم
الممزوج بالخوف يسكر، وهل أخوف من القمار؟ إنه يعطي ويسلب، وليست دواعيه
دواعينا، ولا يعنيه ما يعنينا، هو أبكم أعمى أصم، هو القادر على كل شيء، هو رب من
الأرباب.
هو إله له عابدون، وله أولياؤه الذين يحبونه من أجل ذاته لا من أجل وعده ونواله؛
يعبدونه وإنضربهم، وإذا أفقرهم دون شفقة نسبوا الذنب إلى أنفسهم لا إليه، وقالوا:
إنا لعبنا خطأً.
يتهمون أنفسهم، ولكن لا يكفرون.

 
 

يقدر المرء، بل يجب عليه أنْ يقول كل شيء إذا علم كيف يقول كل شيء، وإنَّ في سماع
اعترافٍ صادق الصدق كله لذةً لا توصف، ولكننا لم نسمع منذ وُجد الناس اعترافًا كهذا،
لم يقل واحد منهم كلشيء، لا ذلك الغيور القديس أوغسطينوس الذي لم يكن أكبر همه
إظهار نفسه عاريةً كما هي، بل إفحام الزنادقة، ولا هذا المسكين روسو العظيم الذي كان
جنونه يدفعه إلى الافتراء على نفسه كذبًا.

 
 

وُجد التعصب في كل عصر، ما من دين إلَّا كان له شيعته المتعصبون، وبنا جميعًا ميل إلى
العبادة، كلشيء فيما نحبه يبدو لنا حسنًا، ويسوءنا لو يدلنا دالٌّ على نقيصة في أوثاننا،
إنَّ الناس ليجدون مشقةً كبرى في إحلال قليل من النقد والتمحيص في أصول عقائدهم
ومصدر إيمانهم، ولو كانوا يكثرون النظر في المبادئ لما آمنوا بشيء.

 
 

ليست الكرة الأرضية إلَّا حبة رمل في بادية العوالم اللامتناهية، ولكن إذا لم يوجد الألم إلَّا
في هذه الكرة، فهي إذن أعظم من الكون بأسره، وهي إذن كلشيء، وليس ما بقي شيئًا؛
إذ لن يوجد فيما عداها فضيلة ولا نبوغ، وهل النبوغ إلَّا فن لرقية الألم؟